إنّ الحرب حكاية جغرافيّةٍ متحرّكة، كلّما كان الدافع السياسيّ لها توسّعيًّا، ازداد المجتمع انعزاليّةً، اقتلاعيّةً وإقصائيّةً (فالأبارتايد عقيدةٌ بيروقراطيّةٌ وتقليدٌ مجتمعيٌّ) وإحدى الحلقات التمهيدية للوصول إلى الإبادة الجماعية.
***
غداة حرب غزة شهد العالم نقاشاً غير مسبوق تناول جوانب عديدة، سياسية وعسكرية وإنسانية وقانونية وأخلاقية، وبلغة لا تخلو بدورها من سجالات حقيقية حول المصطلحات وكيفية فهمها واستخدامها ليتكشّف لنا حجم الإنحيار الدولي لمصلحة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” على حساب سردية الشعب الفلسطيني وحقه المشروع في مقاومة المحتل، وفق الدساتير والمواثيق والشرائع الدولية كافة.
إن إصرار حكومات عالم الشمال على عدم إدانة إسرائيل بارتكابها إبادة جماعية بحق الفلسطينين، بالرغم من التغيير الملحوظ في مزاج الشارع الغربي والأوروبي على وجه الخصوص، نتيجة هول المشهد الذي يتابعونه يومياً عبر وسائل الإعلام، مرده الحرص الدؤوب لتلك الحكومات لمنع فك إرتهان مصطلح الإبادة الجماعية حصراً لمصلحة مصطلح الهولوكوست (الإطار النظري والمثل المُحتذى به في تحديد معنى الإبادة الجماعية لدى عالم الشمال)، هذا من ناحية أولى.
تغدو الإبادة الجماعية التي نُشاهدها اليوم إبادة الرجل الأبيض بحق شعوب عالم الجنوب ليس على المستوى الإنساني والأخلاقي والثقافي فحسب، بل على المستوى السياسي والأيديولوجي أيضاً
من ناحية أخرى؛ ثمة سعي غربي دؤوب لتثبيت شرعية الكيان الإسرائيلي وحقه في الوجود والدفاع عن نفسه، وذلك بهدف الحيلولة دون أي نقاش لاحق للأجيال القادمة في المجتمعات الأوروبية، من شأنه أن يكشف حقيقة ضلوع دولهم تاريخياً بالتواطؤ مع الحركة الصهيونية في تهجير اليهود من القارة الأوروبية إلى الأرض العربية الفلسطينية بإدعاء شهير (شعب بلا أرض، وأرض بلا شعب) متذرعين بأساطير دينية حول أرض الميعاد وهيكل سليمان؛ كل ذلك بهدف تأسيس كيان خاص بهم يفصل شرق الأرض العربية عن مغربها، قائم على الاحتلال والاستيطان والعنصرية بحق أصحاب الأرض، فتتحول كل القيم الإنسانية والأخلاقية والحقوقية والقانونية التي يعتبرون أنفسهم رواداً لها في خدمة القاتل ودفاعاً عنه في وجه الضحية.
وما أعمال القمع والترهيب التي تشهدها اليوم معظم الشوارع الأوروبية والغربية وفي مؤسساتها العلمية والاجتماعية والاعلامية والتربوية والسياسية بحق كل من يناصر فلسطين وقضيتها إلا خير دليل على مدى نازية وفاشية الرجل الأبيض ونظرته الفوقية لشعوب عالم الجنوب وقضاياهم وليتكشف لنا أن الحرية والديموقراطية الإجتماعية وحقوق الإنسان وُجدت فقط في خدمة الرجل الأبيض دون غيره، فالمسؤول عن هذه الإبادة الجماعية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني بالدرجة الأولى هو دول عالم الشمال وعلى وجه الخصوص الثعالب الأوروبية التي فعلت ما فعلت بحق شعوب العالم ولا سيما بحق يهود أوروبا، وتأتي مسؤولية إسرائيل في الدرجة الثانية ككيان وظيفي، وكونها تخوض مواجهة على مستوى الكينونة في ذاتها، ومن ناحية أخرى، تواجه مشكلة لها علاقة بإعادة إنتاج هويتها الإسرائيلية الآخذة بالإنهيار والتلاشي.
إستناداً إلى ذلك، تغدو الإبادة الجماعية التي نُشاهدها اليوم إبادة الرجل الأبيض بحق شعوب عالم الجنوب ليس على المستوى الإنساني والأخلاقي والثقافي فحسب، بل على المستوى السياسي والأيديولوجي أيضاً. فعزوف هذه الدول عن لعب دورها في إيقاف هذه الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني وعدم الالتهاء بالبحث عن هدن “إنسانية”، الغاية منها مزيد من الضوضاء للتغطية على سردية الإبادة الجماعية المستمرة. هذه السياسة المُقنّعة لتلك الدول تُخفي بعداً أيدولوجياً يوجب ضرورة إبادة أي جمع من الناس من شعوب دول عالم الجنوب فيما لو قرر أحدهم عصيان أوامر إعادة بناء الكيانات الكومبرادورية، وإعادة بناء كيانات سياسية تعمل ضمن منطق البيدق للقوة الإقليمية النافذة، وهذا كان الخطأ الفادح الذي ارتكبته حركة حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
إن حركة حماس على المستوى الأيديولوجي لا تُمثل نقيضاً لنموذج التبعية السائد في عالم الجنوب كسائر الحركات الدينية، ولكن حصل ذلك نتيجة فعل مكونات الإبادة الجماعية السارية منذ العام 2007 بحق الفلسطينين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما دفع بهذه الحركة المقاومة للقيام برد فعل غير متوقع من حيث التخطيط والتنظيم والإعداد، بعيداً عن كون هذا الفعل مدروساً أو غير مدروس، ولكنها قامت بفعلٍ مقاومٍ أخرجها من معادلة التبعية، وهذا النصر الإلهي الوحيد الذي حدث، كونها عوّلت على نصير إقليمي خانها بدوره، وفي خضم هذه الخيانة أُعتقت حماس من وِزر هذه التبعية الإقليمية التي هي أحد قواعد وشروط السماح لاستمرارية وجود معارضة (مقاومة) لجمع معين من الناس، وفقاً لمنطق الرجل الأبيض.
في الخلاصة، هذا ما يجعل الإبادة الجماعية التي تحصل في غزة مختلفة عن أشكال أخرى من الإبادات التي حصلت في التاريخ، كونها ليست موجهة نحو جمع هوياتي إنعزالي معين، إنما هي موجهة نحو سلوكيات التمرد، ولهذا في بادئ الأمر كانت الحرب ضد جنين وتُرجمت في أدواتها الاستئصالية الهمجية الدموية ضد قطاع غزة. نعم، إنها إبادة ضد عملية تهدف إلى بلورة هوية سياسية تُعرّف نفسها في الأساس من موقعها النقيض ضد سياسات الإنبطاح الإستعماري، سواء بنماذجها الإقليمية الجديدة أو النماذج الإمبريالية القديمة.
(*) راجع الجزء الأول بعنوان: مقتلة غزة.. الإبادة الجماعية الأكثر رعباً في التاريخ