مقتلة غزة.. الإبادة الجماعية الأكثر رعباً في التاريخ (2/1)

"ليس الحاضر مجرّد محطّةٍ انتقاليّة بين الماضي والمستقبل؛ بل هو وحدة الاثنين" (مارتن هايدغر «الكينونة والزمان»).

إنّ الحرب حكاية جغرافيّةٍ متحرّكة، كلّما كان الدافع السياسيّ لها توسّعيًّا، ازداد المجتمع انعزاليّةً، اقتلاعيّةً وإقصائيّةً (فالأبارتايد عقيدةٌ بيروقراطيّةٌ وتقليدٌ مجتمعيٌّ) وإحدى الحلقات التمهيدية للوصول إلى الإبادة الجماعية.

***

إن حجم التضليل والخداع اللذان يمارسان من قبل الحكومات الغربية ووسائل إعلامهم من خلال استخدام القانون الدولي في الترويج الممنهج لـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، يُعدُّ أكبر عملية تزوير من قبل تلك الدول”المتحضرة”، بسبب معرفتها أن هذا المبدأ القانوني لا ينطبق على إسرائيل كونها دولة احتلال؛ وحتى لو تأكّد أن لإسرائيل حقها في الدفاع عن النفس، فإن المادة 51 من هذا القانون تُقيّد هذا الحق بأن يكون متناسباً وطبيعة “الإعتداء”.

إن تلك المزاعم ما هي إلا محاولات بائسة ويائسة لتقديم إسرائيل ضحيةً باستخدام القانون الدولي، للتغطية على الإبادة الجماعية التي تُمارس بحق الشعب الفلسطيني من قبل هذا الكيان الإستعماري الإحلالي الإستيطاني العنصري الوحيد المتبقي في العالم.

الإبادة الجماعية.. حالة غزّة

وعلى الرغم من السجال القائم حول كيفية تعريف ما يجري بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي وإصرار دول عالم الشمال على عدم إدانة إسرائيل بشكل واضح بإرتكاب إبادة جماعية ممنهجة بحق أصحاب الأرض، بل على العكس يجهدون في البحث عن تبريرات لما يرتكبه جيش الاحتلال من مجازر همجية متواصلة بحق هذا الشعب “رد فعل عنيف، حق الدفاع عن النفس، أضرار جانبية، قتلى نتيجة الحرب، إلخ” بالتزامن مع تمنيات “إنسانية” من قبل “العالم المتحضر” بعدم استهداف المشافي والمدارس والجامعات ومراكز الإيواء والفرق الطبية، والصحفيين، إلا أن كل تلك التبريرات والتمنيات لن تغيّر حقيقة ما يجري من إبادة جماعية ممنهجة بحق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والتي بدأت فعلياً وبشكل ممنهج منذ 17 عشر عاماً، وما نشهده اليوم، أي (منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023) ما هو إلا أحد أطوارها الهمجية وأكثرها دموية ووحشية وذلك ليس من منطلق التعاطف مع الشعب المضطهد، بل وفق تعريفات الرجل الأبيض نفسه، فوثيقة “أركان الجرائم” التابعة لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تفيد أن أفعال الإبادة الجماعية هي القتل وإلحاق الأذى البدني أو المعنوي الجسيم، لجماعة معينة من الناس وفرض أحوال معيشية عليهم تسبب عمداً في إهلاك مادي وتهجير قسري.. الخ.

ثمة تلفزة للإبادة الجماعية بكافة تفاصيلها والدعوات العلنية لاستمرارها تحمل في طياتها تهديداً مباشراً لكل شعوب عالم الجنوب لكي تحتاط من الشروع في تنظيم وبناء هوية متمردة عابرة لأي منطق إثني أو عرقي أو طائفي على أسس سياسية مناهضة للاستعمار ولكل أدواته، بأنه سوف يُواجَه بإبادة جماعية على غرار ما يجري اليوم بحق الشعب الفلسطيني

ومَنْ يطّلع على مصطلح الإبادة الجماعية القانوني الذي صاغه المحامي البولندي (ليمكين) عام 1944، يرى أنّ المصطلح ينطبق تماماً على نكبة الشعب الفلسطيني وكأنه صُمّم خصيصاً للدلالة عليها، فهو يعني وجود خطة مُنسَّقة غير معلنة تتجسد من خلال أفعال متعددة بهدف تدمير الأسس الجوهرية لحياة جماعة معينة من الناس، وذلك عبر تدمير نمط الحياة للجماعة المضطَهدة من قبل المضطهِد بهدف الإخضاع أو التهجير القسري. بالتالي أيّاً من هذه الأفعال، سواء كان القصد منها التدمير الكلي أو الجزئي لتلك الجماعة، بصرف النظر عن كمية المجازر وعدد القتلى، تندرج تحت عنوان جرائم الإبادة الجماعية.

الإبادة.. أعلى مراتب الجريمة

الإبادة هي فعل سياسي بالدرجة الأولى، غايته الشروع في القتل الممنهج والمتواصل، لذلك نقول إن الإبادة الجماعية هي جريمة الجرائم؛ هي أعلى مراتب الجريمة. وفي هذا السياق، فإن الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في غزة لم تبدأ في السابع من تشرين الأول/أكتوبر2023 بل بدأت منذ 17 عاماً اي منذ أن بدأ حصار قطاع غزة، عبر سياسة تقويض حياة الناس واعادة انتاجها بكل أشكالها، ليس على المستوى الحياتي المعيشي اليومي فحسب، لا بل على المستوى الفكري والثقافي والبيولوجي.

إن سياسة التقويض التي تمارسها إسرائيل أمام أعين العالم “المتحضر” تطال كافة جوانب حياة الفلسطينيين، من خلال الرقابة الشديدة والإطباق المباشر على حياة الناس اليومية، ما يجعلهم رهينة حصار جغرافي إقتصادي بمعنى السيادة على عملية تقرير أشكال وأنماط ميادين التطور الإنساني في تلك البقعة الجغرافية.

هناك أولاً البعد البيولوجي، “أي عملية التحكم والتقنين على ما يدخل من غذاء لهذا الجمع من الناس وهذا ما يعرف بالحرب البيولوجية التي تتضمن آليات التحكم بكمية الغذاء التي تدخل إلى أجساد الأفراد المكونة للمجتمع”.

إذاً، نحن أمام حصار جغرافي (حركي)، اقتصادي (إنمائي)، غذائي (إنجابي) وأضف الى هذه الأبعاد الثلاثة لعملية الإبادة الجماعية وبشكل موازٍ لها، فعل القتل المباشر من حين لآخر – مع ضرورة الإشارة إلى أن غزة تتعرض للحرب العدوانية الثامنة على التوالي – والذي له أساليب ووجوه متعددة منها الإعتقال، وهو شكل من أشكال الضبط الجسدي المباشر، وهذا وجه من أوجه القتل.

إقرأ على موقع 180  سُنّةُ لبنان من "دول الثورة" إلى "دول الثروة".. الآن إلى أين؟

ثانياً؛ أسلوب القتل المباشر بذرائع مختلفة، منها مجرد الشك أو الاشتباه أو الإحساس بالخطر.

ثالثاً؛ أسلوب القتل من خلال الصناعات العسكرية المتطورة والتي تمنح القاتل ميزة القتل بعيداً عن مسرح الجريمة وهذه من السياسات المتبعة لدى النظام الرأسمالي حول كيفية الإجهاز على جمع معين من الناس دون الحاجة إلى الإحتكاك المباشر معهم، وهذا يُفسر طبيعة القصف الوحشي غير المسبوق الذي يتعرض له قطاع غزة اليوم، ولهذا النمط من أساليب القتل الجماعي خلفية أيدولوجية أيضاً تستند في جوهرها إلى مسألة التفوق العرقي والإنساني على الآخرين، وبالتالي ممارسة هذا النوع من الجرائم لا يجب أن تكون من خلال مسرح ندي، لا بد أن يجري فعل القتل الجماعي عن بعد، مثلما تُباد أجناس مختلفة من الحيوانات. وفي حالة إسرائيل مرة أخرى، كانت هناك دعوات علنية من قبل وزراء في حكومة الكيان للتعامل مع الفلسطينيين كحيوانات، دون أي إدانات تُذكر على الإطلاق من أية جهة حكومية من دول عالم الشمال “المتحضر”!

لا تقتصر الإبادة على كل تلك الأبعاد والتي غالباً ما تأتي متعاقبة وعلى مراحل، ففي حالة غزة تأتي كلها دفعة واحدة ولكن بصيغة ديمومة يضاف إليها عنصر المشهد (النقل المباشرة لمشهدية القتل الجماعي منذ العام 2006 لغاية الآن) ما يجعلها من أكثر الإبادات الجماعية عبر التاريخ رعباً وذهولاً.

ثمة تلفزة للإبادة الجماعية بكافة تفاصيلها والدعوات العلنية لاستمرارها تحمل في طياتها تهديداً مباشراً لكل شعوب عالم الجنوب لكي تحتاط من الشروع في تنظيم وبناء هوية متمردة عابرة لأي منطق إثني أو عرقي أو طائفي على أسس سياسية مناهضة للاستعمار ولكل أدواته، بأنه سوف يُواجَه بإبادة جماعية على غرار ما يجري اليوم بحق الشعب الفلسطيني.

(*) غداً الجزء الثاني والأخير: مقتلة غزة.. من صنع “الرجل الأبيض”

Print Friendly, PDF & Email
نشأت زبداوي

باحث فلسطيني

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لكتبة الإنذار الخليجي للبنان: "بلوه واشربوا ميتو"!