صحيح أن قوات الحدود الأردنية تتصدى منذ سنوات لمحاولات التسلل إلى أراضيها ولعمليات التهريب، خاصة من سوريا، وصحيح أنها ليست المرة الأولى التي يُغير فيها الطيران الحربي الأردني على الأراضي السورية، لكن استهدافه الأخير لمنازل في بلدتي عرمان وملح جنوبي السويداء، وتسببه في مقتل نحو 10 أشخاص معظمهم من النساء والأطفال، استوجب للمرة الأولى صدور بيان إدانة عن وزارة الخارجية السورية، لكن ما عدا البيان الأخير، كل المتابعين يجزمون بأن دمشق ـ ومعها كل من موسكو وطهران ـ “يتفهمون” حيثيات الضربات الجوية الأردنية.
تطوير قواعد الإشتباك
برغم انعقاد اجتماع أمني سوري – أردني في تموز/يوليو الماضي، والذي ناقش قضايا عدة بينها قضية تهريب المخدرات، ومن ثم الاتفاق على التعاون والتنسيق بين الأجهزة العسكرية والأمنية في كلا الطرفين، هل ما حصل من غارات أردنية على الجنوب السوري مؤخراً يُعتبر خرقاً للاتفاق، وهل يُمكن عزله عما يجري في غزة والضفة الغربية ومجمل الإقليم؟
لنتوقف بداية عند بيان وزارة الخارجية السورية، التي عبّرت عن “أسفها الشديد” لشن الأردن ضربات جوية داخل الأراضي السورية، معتبرة أن “لا مبرر لها”، وأوضحت أنها “تحاول احتواء تلك الضربات حرصاً على عدم التأثير على استمرار استعادة العلاقة الأخوية بين البلدين”.
الأردن، من جهته، أعرب عن انزعاجه من استمرار عمليات تهريب السلاح والمخدرات، التي اتخذت منحى جديداً ومتطوراً، بحسبه، خلال الأيام الأخيرة عن طريق استخدام الطائرات المُسيّرة على خط عصابات التهريب مع محاولة إدخال مواد متفجرة من سوريا. وتقول مصادر أردنية إن الدولة الأردنية حريصة على مكافحة تهريب المخدرات لحماية المجتمع الأردني وعلى ألا يكون الأردن ممراً لتلك المواد الممنوعة إلى دول الخليج العربي من جهة، ومن جهة ثانية، وهي الأخطر والأهم، يرفض الأردن أن يتحول إلى جسر عبور للأسلحة سواء إلى الضفة الغربية أو إلى أي مكان آخر..
مخدرات أم سلاح أم..؟
وفي متابعة سريعة للإعلام الأردني، ثمة من يربط تلك الحوادث بما يجري في الضفة الغربية، ويتهم البعض قوى “محور الممانعة”، بأنها تسعى لإيصال السلاح إلى الضفة الغربية، والبعض الآخر يتجنب ذلك، لكنه يُبرّر تصرف بلاده ويعتبر أن ما تقوم به عمّان على الحدود يخدم الفلسطينيين قبل الأردنيين، انطلاقاً من أن إسرائيل تنتظر ذريعة لتنفيذ مخططها لجهة بناء جدار فاصل على طول الحدود الأردنية الفلسطينية، ومن شأن ذلك القضاء على مشروع “حل الدولتين” بصورة نهائية، حسب اعتقادهم.
وإسرائيل بدورها، لم تنفك تفبرك أخباراً بأن ثمة عمليات تهريب للأسلحة تتم من الأردن إلى الضفة الغربية، ووجدت ضالتها في ربيع العام 2023، بزعمها أنها عثرت على أسلحة بحوزة النائب الأردني عماد عدوان إثر اجتيازه جسر الملك حسين المؤدي إلى الضفة، وألقت القبض عليه وسلّمته إلى السلطات الأردنية. وهي عبارة عن أسلحة فردية متوافرة أصلاً بين أبناء الضفة، ويمكنهم شراءها من المستوطنين أنفسهم، وهذا أمر حاصل وغير مستهجن، والأمر نفسه حصل في غزة أيضاً.
هذه الحادثة الغريبة ألقت بظلالها على علاقات الأردن والدولة العبرية المتوترة أصلًا بسبب حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة وسلوكياتها.
والملفت للنظر أن الأردن بالتزامن مع هذا الحدث أعلن تغيير قواعد الاشتباك على طول حدوده مع سوريا، حماية لحدوده من خطر التهريب. وبالفعل قامت طائرات حربية أردنية بضربة جوية في الجنوب السوري في أيار/مايو 2023 أدت إلى مقتل مهرب المخدرات الأبرز بين الأردن وسوريا مرعي الرمثان مع عدد من أفراد عائلته.
ربما صحيح أن “محور الممانعة” لم يضع خطة لتهريب السلاح إلى الضفة عبر الأردن، على اعتبار أن الأخير مُحكم الطوق على الحدود. لكن الحقيقة أنه لو أُتيح للمحور تهريب السلاح لن يُقصّر يوماً واحداً، خصوصاً أن الضفة تعني الكثير للمقاومة الفلسطينية، وسوف تكون مربط فرسها في المقبل من أشهر أو سنوات
جدار عازل
تلك الأحداث جرت قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر وحرب غزة. أيضًا من غير الممكن تجاهل مقالة الكاتب الأردني ماهر أبو طير في جريدة “الغد” الأردنية، والتي هاجم فيها استغلال دولة الكيان الصهيوني تصريحات إيرانية منذ العام 2019، وهنا يستشهد بتصريح قديم من عام 2019 للمستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني، الجنرال يحيى رحيم صفوي، والذي كان قائداً للحرس الثوري الإيراني ويقول فيه إنّ إيران تضع على أجندتها تسليح الضفة الغربية، ويُعلّق أبو طير قائلاً: “هكذا تصريح إيراني، وغيره من تصريحات إيرانية يتم توظيفها إسرائيلياً بشكل انتهازي، للاستثمار في المخاوف، وحصد المزيد من مكتسبات الدعم”.
وليس سراً أن إسرائيل تعمل على بناء جدار يفصل بين فلسطين المحتلة أو الضفة الغربية والمملكة الهاشمية، وفي مطلع العام 2021، قامت بتكديس آلاف الأطنان من الأملاح المستخرجة من البوتاس وبناء جدار ملحي عملاق على طول 45 كيلومتراً مع الحدود الأردنية من جهة منطقة وادي عربة- البحر الميت، وهذا الجدار الملحي الضخم، يتراوح ارتفاعه بين 9 إلى 13 متراً، وتبرّره إسرائيل بأنه لا يتعدى محاولة صد المتسللين في تلك المنطقة التي تفتقر لوجود سياج. وبالتالي تبدو السردية الأردنية صحيحة في هذا الإطار، فمجرد استشعار إسرائيل بوجود حالات تهريب سلاح عبر الحدود جعلها لا تتردد في الشروع في بناء جدار إسمنتي مجهز بأحدث التقنيات حتى تضمن عدم إحالة الضفة إلى غزة ثانية، من وجهة نظر الدولة العبرية.
وتتجاهل إسرائيل بإقامة مثل هذا الجدار المصالح الفلسطينية والأردنية. زد على ذلك أن إقامة جدار عازل كهذا يقوض ملامح الدولة الفلسطينية نهائيًا، مما يفتح باب الخطر الحقيقي على الأردن بما يخص ملف تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن.
وتقول مصادر أردنية إن “إسرائيل مفتونة ببناء الجدران العازلة، فقد عزلت الضفة الغربية داخل الجدار، وهي تحفر الخنادق، وتقيم السياجات في كل مكان، وهي لا تجد حلاً لحماية أمنها، سوى ببناء الجدران العازلة، لكنها في حالة الحدود الأردنية الفلسطينية، تجد في سيناريو الفصل الكامل، واحتمال إقامة جدار عازل على طول الحدود، ليس مجرد حماية لأمنها، بل عملية شطب ممنهجة لمشروع حل الدولتين”.
في ضوء ما سبق يمكن فهم السلوك الأردني في قصف مواقع على الحدود السورية الأردنية ومحاولة إفشال التهريب – على الأقل أمام الرأي العام العالمي – بأنه تأكيد إلى عدم وجود مبرر لإقامة هذا الجدار العازل.
وللتأكد من صحة هذه الفرضية لا بد من متابعة مواقف دمشق وطهران وما إذا كانوا يُبرّرون للأردن الرسمي سلوكه، فإن كان ذلك، فهذا يعني أن هذه الفرضية دقيقة. وإن كانوا لا يخفون ضيقهم من سلوك الأردن الرسمي حتى في الغرف المغلقة، فهذا يعني أننا نحتاج لفهم تغيير قواعد الاشتباك الأردنية على الحدود السورية من زاوية أخرى.. لكن لو كان الخيار الثاني هو الإجابة فإن ذلك سيكون ضد مصالح الأردن، لذا فإنه على الأرجح وفي سياق الأحداث في المنطقة يبدو أن الرأي الأول هو الأرجح، وهو أن الأردن يريد قطع الطريق على اسرائيل في تبرير إقامة جدار عازل على الحدود الأردنية الفلسطينية، ولعل هذا التوقيت الذي يتعاطف فيه الغرب وأميركا مع اسرائيل سيكون وقتا مواتيًا لإسرائيل لفرض رغبتها وهو ما لا يريده لا الأردن ولا حتى الفلسطينيين.
الأردن ينأى بنفسه
ربما صحيح أن “محور الممانعة” لم يضع خطة لتهريب السلاح إلى الضفة عبر الأردن، على اعتبار أن الأخير مُحكم الطوق على الحدود. لكن الحقيقة أنه لو أُتيح للمحور تهريب السلاح لن يُقصّر يوماً واحداً، خصوصاً أن الضفة تعني الكثير للمقاومة الفلسطينية، وسوف تكون مربط فرسها في المقبل من أشهر أو سنوات.
وصحيح أيضاً، أن الأردن لا يريد أن يكون جزءاً من إصطفافات إقليمية لا تراعي مصالحه، لكنه أيضاً، بدا بعد استهداف “البرج 22” في قاعدة التنف الأميركية، والتي أدت إلى مقتل أربعة جنود أميركيين وجرح آخرين، وكأنه لا يريد أن يكون في المعسكر المواجه أو المنخرط ضد “محور المقاومة”، ونأى بنفسه من خلال إعلانه بأن القاعدة المستهدفة لا تقع في الأردن إنما في أراضي سوريا. وبالتالي ضيّع فرصة على أميركا التي كانت ترغب في زجه بصراعها المتشعب مع “المحور” في المنطقة.
من الطبيعي أن تتحول تلك المنطقة إلى بؤرة لتهريب المخدرات والأسلحة، لكن هذا لا يعني أن الدولة السورية متورطة، خصوصاً أن تلك المنطقة ليست تحت سلطة الجيش السوري بصورة جليّة وكاملة، والدليل أن فصيل “رجال الكرامة”، الناشط في السويداء، دعا حرس الحدود الأردني للتنسيق معه بشأن مكافحة التهريب. ولا يخفى على أحد، أن سوريا غير مهتمة بهذا الموضوع، لديها الكثير من الانشغالات في الداخل، وليست بوارد تعكير علاقتها الأخوية بالأردن. إلا أن جرح المسّ بالسيادة السورية من جهة، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة من جهة ثانية، والحصار الأميركي المتمادي من جهة ثالثة، كلها عناصر تثير حساسية الدولة السورية!