عند نقطة التحول التي يشهدها العالم، يعود الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير حاملاً معه وعداً بإنهاء الحروب، وتعزيز آماله بالفوز بجائزة نوبل للسلام، فقط حتى لا يبقى باراك أوباما متقدماً عليه في هذا المجال.
لكن الوعود شيء والوفاء بها شيء آخر. وإذا كان الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن قد اكتفى بإدارة حربي أوكرانيا والحروب الإسرائيلية على غزة ولبنان ومؤخراً التوغلات الإسرائيلية في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، فإن ترامب لمّح أكثر من مرة، بتفكير رومانسي، إلى أن كل الحروب يجب أن تتوقف بمجرد عودته إلى البيت الأبيض.
لا يُفصح ترامب كثيراً عن خطته لوقف الحرب الروسية-الأوكرانية، مع أنه يُلمّح إلى استعداده للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في سبيل التوصل إلى تسوية سياسية للنزاع الذي يقترب من عامه الثالث.
وقفْ الحرب هو تحدٍ كبير بالنسبة لترامب. وهو يملك ورقة المساعدات الأميركية لأوكرانيا من أجل حمل الرئيس فولوديمير زيلينسكي على تليين شروطه للدخول في مفاوضات مع فلاديمير بوتين. والعام 2025، يُعتبرُ عاماً حاسماً بالنسبة للحرب التي ستكون أمام خيارين: وقف النار والبحث عن تسوية ديبلوماسية، أو اتساع رقعة النزاع ليتحول إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. كل مواقف ترامب توحي بأنه لا يريد التورط في هكذا نزاع “يقود العالم وهو نائم”، بحسب رأيه، إلى حرب عالمية ثالثة.
البراغماتية تفترض أن إيران في وضعها الحالي، هي أكثر ميلاً للذهاب إلى التفاوض، برغم وجود أصوات في الداخل الإيراني تدعوها إلى اعتماد “الخيار النووي” من أجل تشكيل قوة ردع في مواجهة أية محاولة لزعزعة أركان النظام
ترامب ونتنياهو.. وإيران!
ويُواجه ترامب وضعاً أكثر تعقيداً في الشرق الأوسط. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل سيكبح الرئيس الـ47 للولايات المتحدة جماح صديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كي يُخفّض التصعيد في المنطقة، التي حوّلها إلى حقل رماية حر لإسرائيل، من غزة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، أم سيُطلق يده للذهاب أبعد في تحقيق هدفه بـ”تغيير وجه الشرق الأوسط” بالنار، وصولاً إلى استهداف إيران؟
الأرجح أن يعمد ترامب إلى البناء على التوازنات الجديدة التي برزت نتيجة زلزال 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تلاه من حروب إسرائيلية فكّكت “المحور” الإيراني من غزة إلى لبنان وأخيراً بسقوط نظام بشار الأسد، وتولي “هيئة تحرير الشام” السلطة في دمشق بدعم من تركيا رجب طيب اردوغان.
الضعف الذي لحق بحلفاء طهران في المنطقة والتراجع المستمر في الاقتصاد الإيراني، يُرجّح كفة التيار الإصلاحي ودعاة الانفتاح على الغرب. يطرح نائب الرئيس الإيراني محمد جواد ظريف في مقال نشره في مجلة “الإيكونوميست”، بعد سقوط الأسد، مبادرة لإطلاق حوار “مودة” بين دول المنطقة بهدف “التطلع إلى المستقبل ودفن الماضي”، والعودة إلى الاتفاق النووي للعام 2015. وفي مقال في مجلة “أفيرز” الأميركية، قبل أسابيع، أكد وزير الخارجية الأسبق، أن إيران من الآن فصاعداً يجب أن تقبل بما يقبل به الفلسطينيون في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
البراغماتية تفترض أن إيران في وضعها الحالي، هي أكثر ميلاً للذهاب إلى التفاوض، برغم وجود أصوات في الداخل الإيراني تدعوها إلى اعتماد “الخيار النووي” من أجل تشكيل قوة ردع في مواجهة أية محاولة لزعزعة أركان النظام.
وسيكون ترامب أمام خيار الدخول في مفاوضات مع إيران ضعيفة، أو التسليم بنظرية نتنياهو التي تقول إن تغيير الشرق الأوسط لا يكتمل إلا بتوجيه ضربة عسكرية قوية لإيران تتسبب في انهيار النظام هناك؟
في مواجهة هذين الخيارين، قد يُفضّل ترامب التفاوض في ظل “العقوبات القصوى”، التي يُحتمل أن يعاود فرضها على طهران، وذلك من أجل التوصل إلى اتفاق نووي يُلبي شروطه، ويفرض على إيران أيضاً قيوداً على برنامجها الصاروخي الباليستي وما تبقى من نفوذها الإقليمي.
يبقى أن نتنياهو منذ الآن وحتى 20 كانون الثاني/يناير، قد يُوجّه ضربة عسكرية واسعة لإيران ويفرض أمراً واقعاً جديداً في المنطقة.. وعلى إدارة دونالد ترامب.
التطبيع رهينة “حل الدولتين”؟
كيف سيُهدىء ترامب من روع نتنياهو؟
المعروف عن الرئيس الأميركي المنتخب تأييده لـ”تكبير حجم إسرائيل” في إشارة ضمنية إلى موافقته على ضم الدولة العبرية لنحو 40 في المئة من الضفة الغربية، حيث تُقام الكتل الاستيطانية الكبرى. وقد تعود الإدارة الأميركية إلى نفض الغبار عن “صفقة القرن” إبّان ولايته الأولى، والتي تحدثت عن دولة فلسطينية مؤجلة على نحو 60 في المئة من الضفة الغربية وقطاع غزة.
قد تدفع أية محاولة تركية للسيطرة على المناطق الكردية إلى دخول سوريا في دوامة عنف جديدة، وتؤجج التدخلات الإقليمية، بينما بدأت إسرائيل تُقدّم نفسها بوصفها حامية للأقليات في سوريا. فهل يؤدي ذلك إلى صدام تركي-إسرائيلي؟
ومع رفض الإئتلاف الحكومي والمعارضة الإسرائيلية أي حديث عن دولة فلسطينية، سيعمد ترامب إلى اقناع نتنياهو بالثمن الكبير الذي سيتقاضاه في المقابل، ألا وهو التطبيع مع السعودية وإنشاء تحالف إقليمي ضد إيران.
أما نتنياهو فيعتبر أن التطبيع تفرضه موازين القوى المتغيرة في المنطقة، وليس تقديم أي نوع من أنواع التنازلات للفلسطينيين. ويُصعّب هذا الموقف من مهمة ترامب إذا كان يريد فعلاً البحث عن حل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لا سيما إذا اشترط السعودين “حل الدولتين” ممراً إلزامياً للتطبيع مع إسرائيل.
سوريا.. التحدي التركي والكردي!
في موازاة ذلك، فرض الزلزال السوري على أجندة ترامب. والمعروف أنه ينتشر في سوريا حالياً نحو ألفي جندي أميركي في سياق التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”. وإلى جانب هذه المهمة، أخذت القوات الأميركية على عاتقها حماية “الإدارة الذاتية” للأكراد في شمال شرق سوريا في مواجهة النظام السوري السابق والتوغلات التركية. وتعتبر واشنطن أن “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد)، هي شريك لا غنى عنه في محاربة “داعش”.
أما تركيا، فتنظر إلى “قسد” على أنها تنظيم إرهابي يتعين القضاء عليه واستئصاله كما هو الحال مع “داعش”، مما تسبب في بروز اختلاف في الموقفين الأميركي والتركي.
ويجد أردوغان أن الفرصة مؤاتية الآن لاقتلاع “الكيان الكردي” من سوريا، ولا يبدو أنه سيتراجع عن التقدم نحو كوباني (عين العرب)، للدفع بالمقاتلين الأكراد إلى شرق الفرات في مرحلة أولى تسبق عودة ترامب، ومن ثم الدفع بالسلطات السورية الجديدة إلى استعادة السيطرة على حقول النفط في دير الزور والرقة من الأكراد الذين يسيطرون فعلياً الآن على ثلث سوريا.
وقد تدفع أية محاولة تركية للسيطرة على المناطق الكردية إلى دخول سوريا في دوامة عنف جديدة، وتؤجج التدخلات الإقليمية، بينما بدأت إسرائيل تُقدّم نفسها بوصفها حامية للأقليات في سوريا. فهل يؤدي ذلك إلى صدام تركي-إسرائيلي؟ لا يُمكن إعطاء إجابة بنعم أو لا، في حالة الاستقطاب القوي التي تعيشها الساحة السورية في الوقت الحاضر، والاستعاضة بسؤال آخر حول ما هو الدور الذي يُمكن أن يلعبه ترامب للتوسط بين حليفين يتصارعان على أرض لا تخصهما في الأساس.
وفي مواجهة هذه التطورات السورية، “تواجه إسرائيل معضلة وتقف أمام أحد خيارين: إما معارضة الحكم الجديد في سوريا أو التعامل معه بصفته “ذئباً في ثياب حَمَل” يتبنّى أيديولوجيا إسلامية سنّية متطرفة ويرتدي قناعاً موقتاً للحصول على الشرعية الدولية. والمغزى من ذلك: في أراضي سوريا الجديدة سينشأ عملياً ونظرياً “أردوغستان”، أي محور إسلامي سنّي متطرف يحظى بحماية وتأييد عسكريَين من الجيش التركي، والذي مع مرور الزمن سيتحدى إسرائيل على حدودها”، كما يقول، عميت ياغور، الضابط السابق في البحرية الإسرائيلية في مقالة له نشرتها صحيفة “معاريف”.
عقيدة التركيز الأميركي على الصين، تثير مخاوف من تحول التوترات في تايوان وبحر الصين الجنوبي إلى احتكاك مباشر مع الصين، التي تُعزّز ترسانتها من الرؤوس النووية وتعمل على تحديث جيشها البري وبحريتها وسلاح المُسيّرات، مستفيدة من دروس الحرب الأوكرانية
نزعة ترامب الإمبريالية
لم تعد الطموحات التوسعية حكراً على دول بعينها في العالم. وترامب نفسه تبدّت عليه في الأسابيع الأخيرة نزعات “إمبريالية” حيال حلفائه قبل الخصوم. فهو يضع كندا بين خيار أن تصير الولاية الأميركية الـ51، أو أن تقبل بزيادة الرسوم الجمركية على صادراتها إلى الولايات المتحدة بنسبة 25 في المئة. ويُمعن ترامب في ازدراء رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بإطلاق صفة “الحاكم” عليه.
كما يتوعد ترامب رؤساء العصابات في المكسيك بالقوات الخاصة الأميركية، من دون الأخذ في الاعتبار السيادة المكسيكية. ومن كندا والمكسيك، يُهدّد ترامب باستعادة قناة بنما التي تخلت عنها أميركا عام 1999، وحجته أن بنما “تنهب” الولايات المتحدة بسسب الرسوم التي تتقاضاها على السفن التجارية الأميركية، فضلاً عن عدم رغبته في رؤية الصين تسيطر على القناة، في إشارة إلى الامتعاض من تحول بكين إلى الشريك التجاري الأول لأميركا اللاتينية عوضاً عن الولايات المتحدة.
لا يكتفي ترامب بذلك، بل كرّر عرضه شراء جزيرة غرينلاند التابعة للسيادة الدانماركية في القطب الشمالي. وهو يزعم أن ثمة “ضرورة مطلقة” للولايات المتحدة لوضع يدها على هذه الجزيرة، التي تبلغ مساحتها مليوني كيلومتر مربع، وتوجد فيها ثروات معدنية ونفطية هائلة.
هل يُواجه ترامب الصين؟
في هذا السياق، يُخيف ترامب الحلفاء والخصوم على حد سواء، خصوصاً أنه سيكون متحرراً في ولايته الثانية من كل الأشخاص “الراشدين” الذين أحاط نفسه بهم في ولايته الأولى، بينما يعتمد الآن على فريق من الموالين له مئة في المئة، وهؤلاء يشاركونه في الكثير من آرائه الشعبوية من العداء للمهاجرين إلى سياسة “أميركا أولاً” وبناء الجدران، واعتبار الصين هي العدو الاستراتيجي، وأن استعادة الولايات المتحدة لعظمتها، تمر عبر إخضاع الصين ولو أدى الأمر إلى حرب تجارية واسعة النطاق.
وعقيدة التركيز الأميركي على الصين، تثير مخاوف من تحول التوترات في تايوان وبحر الصين الجنوبي إلى احتكاك مباشر مع الصين، التي تُعزّز ترسانتها من الرؤوس النووية وتعمل على تحديث جيشها البري وبحريتها وسلاح المُسيّرات، مستفيدة من دروس الحرب الأوكرانية.
في ظل هذا الكم الهائل من النزاعات والتوترات التي يشهدها العالم، هل يستطيع ترامب الوفاء بوعده بإنهاء الحروب في ولايته الثانية؟