“أولاً؛ عندما شنّت حماس هجومها الإرهابى على إسرائيل فى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اتخذ الرئيس جو بايدن قرارا مبنيا على الحسابات، إذ أعلن تضامنه الكامل مع تل أبيب، معتقدا أن الطريقة الوحيدة للتأثير على إسرائيل هى احتضانها وإظهار التعاطف الحقيقى معها وإرسال الأسلحة التى تحتاجها وبالتالى كسب ثقتها فى رسم الرد على حركة حماس. ورغم أن الاستراتيجية كانت مدروسة جيدا، إلا أنها فشلت تقريبا فشلا ذريعا.
بعبارة أوضح، حثت الإدارة الأمريكية قبل كل شىء الجانب الإسرائيلى على مراعاة التناسب فى رده على حماس. وسمعت إسرائيل ذلك إلا أنها مضت فى واحدة من أكثر حملاتها العسكرية اتساعا فى هذا القرن ضد سكان يبلغ عددهم نحو 2.2 مليون نسمة، والذين يضمون، وفقا لتقديرات إسرائيل الخاصة، نحو 30 ألفا من مقاتلى حماس. وبحسب تقديرات شهر يناير/كانون الثاني الماضى، فإن أكثر من نصف المبانى فى مختلف أنحاء غزة قد تضررت أو دمرت.
ثانياً؛ نصحت الإدارة الأمريكية إسرائيل بعدم القيام بغزو برى كبير لغزة، كما اقترحت اتخاذ نهج محدد ومستهدف يهدف إلى القضاء على مقاتلى حماس وبنيتهم التحتية، وعقدت الحكومة الإسرائيلية الكثير من الاجتماعات الطويلة مع المسئولين الأمريكيين، لكن فى النهاية مضت فى الغزو البرى.
ثالثاً؛ دعت إدارة بايدن إلى هدنة إنسانية، لكن لم يحدث إلا وقف قصير لإطلاق النار عندما تمكنوا من إقناع الحكومة القطرية بالتوسط فى تبادل الرهائن.
رابعاً؛ بعد انتهاء العمليات العسكرية الأولية، قال المسئولون الأمريكيون لنظرائهم الإسرائيليين إن ما حدث فى شمال غزة لا يمكن فعله فى الجنوب. ومع ذلك، وبعد أن طلبت من الناس الانتقال إلى الجنوب لتجنب الأذى، شرعت إسرائيل فى قصفها بطريقة اعترف بايدن نفسه بأنها «عشوائية».
خامساً؛ مارست الولايات المتحدة ضغوطا متكررة على إسرائيل لبذل جهود أكبر لحماية المدنيات والمدنيين الأبرياء، ولكن دون جدوى، وهى الآن تقدم المشورة ضد غزو رفح، حيث يتجمع أكثر من مليون فلسطينى وفلسطينية. لكن وعد نتنياهو بغزوها، سواء تم التوصل إلى صفقة رهائن أخرى أم لا.
سادساً؛ حذرت واشنطن من أنه بعد الحرب يجب ألا يكون هناك استيلاء إسرائيلى على أراض فى غزة، بالإضافة إلى عدم احتلال القطاع مجددا. الآن، تتمثل خطط الحكومة الإسرائيلية فى القيام بالأمرين معا!
***
تقول إسرائيل إن هدفها هو تدمير حماس بالكامل. يمكنهم قتل مقاتلى حماس. يمكنهم اقتلاع بنيتها التحتية، لكن لا يمكن تدمير حماس لأنها فى الحقيقة فكرة، والمقاومة المسلحة هى الطريقة الوحيدة التى سيحصل بها الشعب الفلسطينى على حقوقه. ولهزيمة هذه الفكرة، فهم بحاجة إلى فكرة أفضل
نستنتج مما ذكر أن السياسة الأمريكية فى التعامل مع حرب غزة تبدو بائسة وغير فعالة وغير أخلاقية. كما أن صورة المسئولين الأمريكيين وهم يفركون أيديهم بشأن الخسائر فى صفوف السكان المدنيين بينما فى نفس الوقت يقدمون المزيد من الأسلحة هى صورة بشعة. وتمتمة رئيس الولايات المتحدة بكلمات مثل «عشوائى» و«تجاوزت الحد الأقصى» فى وصف القصف الإسرائيلى توحى بالضعف والسلبية.
فى الحقيقة، جزء من المشكلة يكمن فى أن بايدن يثق فى نتنياهو، وهو سياسى ذكى بشكل استثنائى يعرف كيفية التعامل مع الرؤساء الأمريكيين بخبرة وقد فعل ذلك لعقود من الزمن. هذه المرة، تفوق رئيس الوزراء الإسرائيلى على بايدن فى الدهاء والمناورة والتفوق.
لكن المشكلة تتجاوز نتنياهو وحده. بلغة أخرى، إسرائيل تعيش حالة صدمة، فهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول هزّ البلاد حتى النخاع، وتحطم الشعور بالأمان الذى كان من المفترض أن تمنحه إسرائيل لشعبها، ونتيجة لهذا فإن العديد من الساسة الإسرائيليين يسمحون بقرارات سوف يندمون عليها بشدة.
ومع ذلك، يتمتع بايدن، باعتباره صديقا حقيقيا لإسرائيل، بالمصداقية اللازمة لإخبارهم بالحقيقة علنا وبشكل مباشر، ربما فى خطاب أمام الكنيست الإسرائيلى كما اقترح خبير السياسة الخارجية ريتشارد هاس.
منذ بداية الحرب، لقى 30 ألف شخص حتفهم فى غزة، معظمهم من الأطفال. ويقف نحو 1 من كل 4 على حافة المجاعة ويعتمد جميعهم تقريبا على المساعدات الغذائية. كما بلغت إمدادات المياه حتى أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضى 7 بالمائة مما كانت عليه قبل الحرب. ناهينا عن أن معظم مستشفيات غزة لم تعد تعمل.
وبحسب كلام نيك ماينارد، وهو جراح زائر يقيم فى أكسفورد، فقد وصف الحالة فى مستشفى بغزة، وهو أحد المستشفيات القليلة التى تعمل جزئيا: «لقد رأينا الكثير من الأطفال يأتون مصابين بإصابات مروعة، وكان الكثير منهم يعلمون أنهم سيموتون. ولا يمكنك أن تمنحهم مسكنات الألم. فى كثير من الأحيان لم يكن هناك مورفين. ولم يكن هناك مكان ليموتوا فيه بكرامة. وفى غالب الأحيان كانوا يتركون على الأرض فى زاوية قسم الطوارئ ليموتوا».
على الجانب الآخر، تقول إسرائيل إن هدفها هو تدمير حماس بالكامل. يمكنهم قتل مقاتلى حماس. يمكنهم اقتلاع بنيتها التحتية، لكن لا يمكن تدمير حماس لأنها فى الحقيقة فكرة، والمقاومة المسلحة هى الطريقة الوحيدة التى سيحصل بها الشعب الفلسطينى على حقوقه. ولهزيمة هذه الفكرة، فهم بحاجة إلى فكرة أفضل، إلى طريقة لإظهار أن العمل والتعاون بدون عنف من شأنهما أن يؤديا إلى حياة أفضل للشعب الفلسطينى والأمن الدائم لكلا الشعبين.
***
على بايدن أن يذهب إلى إسرائيل ويظهر حبه لها من خلال التحدث عن هذه الحقائق الصعبة، كما سيظهر لأمريكا والعالم أنه لا يزال يتمتع بالطاقة والالتزام الأخلاقى والحكمة اللازمة للقيادة”.
(*) بالتزامن مع “الشروق“