20 عاماً على 11 أيلول: أميركا المنتصر المهزوم

في أول سنة لي في برنامج الدكتوراه في جامعة ييل الأميركية، كان من ضمن المواضيع التي درستها مادة تاريخ الديانة المسيحية. إشتمل إمتحان نهاية الفصل الأول على سؤال بحثي بدا لي للوهلة الأولى بسيطاً للغاية: من كان الرابح في الصراع بين المسيحيين والإمبراطورية الرومانية؟

سرعان ما اتّضح لي بعد دقائق من التفكير أن السؤال فيه دهاء والاجابة عليه ليست بالسهلة إطلاقاً. كلاهما انتصر وكلاهما هُزم. صحيح أنّ المسيحيين انتصروا بمعنى أنّهم فرضوا المسيحية على الإمبراطورية الرومانية، لكن الإمبراطورية الرومانية أيضاً انتصرت إذ هي فرضت الكثير من طقوسها الدينية والسياسية وعاداتها الاجتماعية على المسيحيّة. لذلك علينا القول إنّ المسيحيّة التي “انتصرت” لم تكن هي نفسها المسيحيّة التي عانت من الاضطهاد والتعذيب. والمسيحيون الذين أنتجوا كتباً لسرد أخبار شهدائهم الذين قتلوا في الحلبات والساحات الرومانية على يد أسود وجلادين والمعجزات التي حصلت لهم هم غير المسيحيّين الذي قاموا بتدمير المعابد والمعاهد التي لا تتبع تعاليم الكنيسة وبقتل كل من تجرّأ على الإيمان أو نشر غير الفكر المسيحي.

دعونا نحاول طرح السؤال نفسه اليوم: في الحرب بين الولايات المتحدة وما يسمّى بـ”الإرهاب الإسلامي”، من هو المنتصر؟

يمكن القول إنّ تنظيم “القاعدة” حقّق “إنتصاراً” في يوم 11 أيلول/سبتمبر 2001 وفي هجمات أخرى. بالمقابل، تمكنت الولايات المتحدة من إقتلاع معظم أتباع تنظيم “القاعدة” من أفغانستان، لكن هل انتصرت الولايات المتحدة حقًا في الحرب على ما أسمته “الإرهاب الإسلامي”؟

تعتبر الأحداث الأخيرة في أفغانستان دليلاً على فشل هذه الحرب؛ وللدقّة التاريخيّة يجب أن نعترف أنّ هذه الحرب هي حرب ضد من يعيش في الكثير من دول العالم الإسلامي (بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية أو العرقية) وتشارك فيها معظم الطبقة السياسية والعسكرية في الغرب، مع مساعدة نشطة لكثير من الدول، بما فيها دول إسلامية وازنة.

لم تفشل الولايات المتحدة وكل “الشركاء” في تلك الحرب لأن حركة “طالبان” عادت بعد عقدين من الزمن أقوى، ولأن الإرهابيين الذين أرادت قتلهم أو تلقينهم درسًا أصبحوا أكثر عدداً وجرأة وتشعّباً؛ كانت هناك قاعدة لما يسمى “الإرهاب الاسلامي” فأصبحت له الآن قواعد كثيرة. لم تكن هناك قبل عشرين سنة دولة ـ نموذج لهذا الإسلام التكفيري. الآن إنوجد النموذج وأعطى جرعات كبيرة لمن يسيرون على الدرب نفسه. غير أن الفشل الحقيقي هو أن الولايات المتحدة أصبحت أمة إرهابية، تغلّف ارهابها بورقة تين بمسميات الديموقراطية والحريّة والعدالة وحقوق الإنسان وسيادة القانون إلخ… في اميركا، تجد الكثير من الأفراد الذين يؤمنون ويؤكّدون على ضرورة الحفاظ على هذه المبادىء، لكن هل كان بمقدورهم وقف الجرائم التي ارتكبتها آلة الحرب الأميركية في صراعها مع الإرهاب في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا ووو….؟ هل تمّ حبس أو تجريم عنصر واحد من جيشها أو متعاقديها المتورطين في مسائل التعذيب في سجن أبو غريب (العراق) وسجون كثيرة تديرها الاستخبارات الاميركية من باغرام إلى غوانتانامو بما تُجسده هذه كلها من انتهاك فاضح للقانون الاميركي والدولي وشرعة حقوق الانسان ومبادىء الحرية والعدالة؟

بعد عشرين عاماً على 11 ايلول/سبتمبر 2001، إنتصرت الولايات المتّحدة على نفسها وعلى مبادئها. لنقل ذلك بعبارة أكثر وضوحاً: هزمت أميركا نفسها. لم يعد هناك من أميركي قادر على إيقاف آلة الحرب والقتل والإجرام المستمرة بإسم “محاربة الإرهاب” بالأمس وغداً بمسميات جديدة

إذا تركنا جانباً السيرك الاعلامي والخطابات الطنّانة، نستطيع القول إن أميركا أصبحت في الحقيقة كـ”القاعدة” و”داعش” و”طالبان”: تقتل لأنها قادرة على القتل من دون حساب، غير آبهة بالجرائم التي ترتكبها أو الأبرياء الذين تقتلهم أو تشرّدهم. تقتل لأنّها غاضبة ومنفعلة وعاجزة عن سحق الارهابيين. تقتل لأنّها لا تؤمن حقّاً بالديموقراطية والحريّة والسيادة كمبادئ يجب صونها والدفاع عنها بأي ثمن. هذه مجرد شعارات بل أدوات تستخدمها “الإمبراطورية” من أجل بسط هيمنتها على العالم والعالمين.

بعد عشرين عاماً على 11 ايلول/سبتمبر 2001، إنتصرت الولايات المتّحدة على نفسها وعلى مبادئها. لنقل ذلك بعبارة أكثر وضوحاً: هزمت أميركا نفسها. لم يعد هناك من أميركي قادر على إيقاف آلة الحرب والقتل والإجرام المستمرة بإسم “محاربة الإرهاب” بالأمس وغداً بمسميات جديدة.

نحن نخدع أنفسنا إذا اعتقدنا ولو لثانية واحدة أنّ النظام السياسي الأميركي تعلّم درساً واحداً في أفغانستان. قرار الإنسحاب هو قرار أُجبرت الولايات المتحدّة على إتخاذه لأنّها في صدد التحضير لحروب سياسية وإقتصادية وربما عسكرية تعتقد أنّها أكثر أهميّة من حرب أفغانستان.

لو تعلّمت الولايات المتحدة ممّا حصل في أفغانستان لما قال قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال فرانك ماكنزي يوم استكمال الانسحاب في 30 آب/أغسطس الماضي أن “المهمة لم تكن رخيصة. وبلغت التكلفة حياة 2461 جندياً ومتعاقداً، وأكثر من 20 ألف جريح أميركي”. كان عليه أن يحصي جنود حلفاء أميركا الذين قتلوا أو جرحوا في أفغانستان. كان عليه أن يضيف إلى ذلك عشرات آلاف الأفغان الأبرياء الذين قتلتهم يد الدمار الأميركي أو قتلوا وجرحوا وهجروا على يد “طالبان” و”أخواتها”. هذه هي الكلفة الحقيقية للحرب على الإرهاب (أو بالأحرى هذا فصل من تلك الحرب فقط).

إقرأ على موقع 180  كذبة صناديق الإقتراع: لا ديموقراطية مع الطوائفية

منذ الحرب العالمية الثانية، تسببت السياسة الخارجية الأميركية وآلة حربها بكوارث عظيمة في جميع أنحاء العالم، كانت لها كلفتها الباهظة في الداخل الأميركي. لقد دمّرت الولايات المتحدة دول أميركا الوسطى من خلال رفضها حق شعوب هذه المنطقة في أن تُقرّر ما تريده لنفسها من أنظمة وتحالفات سياسية. لم يكن هؤلاء أعداء لأميركا، لكن أميركا قررت أن تناصبهم العداء. سلّطت عليهم تجار المخدرات والممنوعات وعصابات الإجرام. النتيجة دول فاشلة وأزمة لاجئين على حدود أميركا من جهة الجنوب. لقد فعلت الشيء نفسه في معظم العالم الإسلامي حين تحالفت مع الإسلام المتطرف، وقدمت له السلاح وأجبرت حلفاء إقليميين على منحه المال والرجال. النتيجة هي تفريخ تنظيم “القاعدة” و”طالبان” و”داعش”، والآن “داعش ـ ولاية خراسان”؛ ولادة أجيال جديدة من “الجهاديين”؛ تدمير دول في منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا؛ تبديد ثروات الشعوب؛ عشرات ملايين المشردين واللاجئين؛ مئات الآلاف من القتلى والجرحى ودمار هائل للبشر والحجر؛ إختراع تحديات جديدة لـ”الامن القومي الأميركي” كالقول إن “الخطر الصيني” يفوق بكثير خطر الإرهاب، وبالتالي إحتمال إستخدام الأخير مجددا في خدمة هذا “التحدي” أو ذاك!

قرار الإنسحاب هو قرار أُجبرت الولايات المتحدّة على إتخاذه لأنّها في صدد التحضير لحروب سياسية وإقتصادية وربما عسكرية تعتقد أنّها أكثر أهميّة من حرب أفغانستان

لقد دفعت الولايات المتحدة عشرات التريليونات من الدولارات من أجل إشباع رغبتها في الانتقام من هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 (وهذا الرقم لا يشمل تريليونات الدولارات من الأضرار التي سببتها آلة الحرب الأميركية في بلدان كالعراق وأفغانستان واليمن وسوريا إلخ..). ماذا لو قررت الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 أن تستثمر كل تلك الأموال وكل هؤلاء الرجال في إصلاح علل المجتمع الأميركي؟ معالجة تغير المناخ؟ القضاء على الفقر والعنصرية؟ إنهاء الاتجار بالبشر؟ ماذا لو دفعت جزءاً بسيطاً لجيوش الباحثين من أجل دراسة طرق تساعدنا على العيش معاً وفقاً للقيم التي تتفاخر بها حول العالم وترفض تطبيقها في مجتمعها؟

لا يجب أن نتوقع شيئًا مختلفًا من النظام السياسي والاقتصادي الأميركي الذي يضغط بقدميه على رقاب البشر ويعاملهم بوصفهم مجرد علف لآلة الظلم والإستبداد والاستغلال وتدمير الطبيعة ومحاصرة البشرية. نظام يحاول رشوة ناسه بأحلام لا يمكن نيلها إلا بحرمانها عن الآخرين.

يمكن لأفغانستان أن تكون درساً. لكن الدروس تُعلّم عادةً لمن يرغب في العلم والتعلم. للأسف، أميركا “ما بتسمع وما بتشوف.. بس بتضرب بالسيوف”.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  العراق المتصالح مع الخارج.. إستقرار بلغة المصالح