إن المحرقة المستمرة اليوم بحق شعبنا الفلسطيني على يد الكيان الصهيوني ما هي إلا استمرار لرؤية المستعمر الاستراتيجية تجاه المنطقة وشعوبها عبر كيان عمل على تأسيسه ورعايته وتوفير كل أسباب الحياة له منذ عام 1948 ليكون أحد أدواته الصلبة القادرة على حماية مصالحه الاستراتيجية وصون عملية انتاج سياسات الهوية الدينية لتختزل كافة خطابات التحرر الوطني في المنطقة مستحوذة على تجربتها للحيلولة دون ولادتها من جديد.
يعني ذلك في ما يعنيه أن مقاومتنا لهذا الكيان الصهيوني ووظيفته الاستعمارية والاحلالية ما هي إلا استمرار لصراعنا التاريخي مع دول الغرب الاستعماري التي عملت على تجزئة المنطقة العربية بعد إنهاكها وسحقها عبر حملات عسكرية دموية متعددة لخلق أنماط تبعيتها التي تتخطى حركة رأس المال لتنال من كافة المجالات الاقتصادية، السياسية، والادارية.
الهوان الذي نعيشه كشعب عربي فهو نتاج هذه الأنظمة التي تسلمت زمام السلطة بعد “أكذوبة الاستقلال” وما حقّقته من نجاحات في سحق وقمع أي محاولات للتغيير فيها وتهجير أجيال من العمال والإختصاصيين وتحويل الأوطان إلى جحيم طاِرد لأبنائها الفقراء عبر قوارب الموت نحو أرض المحتل القديم طمعاً بالاستقرار.. وربما بقليل من عدل المستعمرين!
ويُشكّل الدعم غير المشروط من قبل دول المركز الاستعماري للقتلة في الكيان القابض على الأرض العربية، امتداداً طبيعياً للمشروع الاستعماري الاستراتيجي، إن لم يكن تعبيراً عن أكثر أطواره وحشية من أجل سحق الفلسطينيين الرافضين للخنوع والخضوع لمنطق المستعمر ورغبته في محو سرديتهم كونها أصبحت تُشكّل عائقاً حقيقياً أمام الإطباق النهائي على المنطقة ومجتمعاتها، بعدما حقّقت قوى الغرب الامبريالي في السنوات الأخيرة نجاحات ملحوظة في توجهات الرأي العام في المجتمعات العربية، عبر غزو ثقافي متدرج وممنهج نال من الإعلام والإعلاميين والباحثين والأكاديميين والمثقفين، وآخر أطوارها الوقحة التدخل في مناهج التعليم، بهدف جعل المجتمعات العربية أكثر اتساقاً مع السياسات الرسمية العربية المتناغمة مع السياسات الإسرائيلية عبر مشاريع مشتركة في شتى الميادين الاقتصادية والتجارية، وصولاً إلى حفلات التطبيع الكبرى التي كان يُعد لها لتُكلّل الرؤية الاستراتيجية للعالم الامبريالي الرأسمالي في بناء شرق أوسط جديد.
إن عرقلة هذا المشروع في مراحله الأخيرة من قبل جيل فلسطيني جديد مقاوم للاحتلال بكل أبعاده متمسكاً بأرضه وحقوق شعبه ومُسلحاً بإرادة صلبة رافضاً لما يرسم من وقائع جديدة في المنطقة تتجاهل حلاً “عادلاً” لقضيته ومتمرداً على سياسات الاخضاع العربية والإقليمية متحرراً من تبعيته لها التي تشترط قواعد إشتباك لمقاومته المحتل ومقزماً في الوقت عينه هذا الكيان الوظيفي في منطقتنا وصولاً إلى وضعه في موقف العاجز على تأمين أمنه وأمن مستوطينيه، كل هذا أثار جنون أمريكا ومعها مجموعة الثعالب الأوروبية، فكان لكيانهم هذا ما أراد من دعم عسكري واقتصادي غير محدود وغطاء سياسي للمحرقة الجماعية التي يرتكبها بحق شعبنا الفلسطيني، محولاً غزة إلى بركة من الدماء على مرأى ومسمع العالم “المتحضر” كله.
وبرغم أن قرار سحق هؤلاء المقاومين قد اتُخذ بقرار أمريكي وبتواطؤ أوروبي وتخاذل إقليمي وتآمر عربي رسمي، إلا أن النتائج أتت على عكس ما كان يتوقعه هؤلاء، فلا الرايات البيضاء رُفعت ولا الإرادة انكسرت ولا القضية تلاشت. وبعد مرور أكثر من 150 يوماً من المواجهات والصمود في وجه المحرقة الدولية بحقهم، تمكّن الفلسطينيون من إعادة فرض سرديتهم وحقهم التاريخي في أرضهم على طاولات المحافل الدولية. والأهم من كل هذا، أنهم أوجدوا مكانة لهم في وِجدان جيل كامل من شعوب عالم الشمال، كشعب يقاوم من أجل تحرير أرضه واستقلاله وحريته، لتصبح فلسطين عنواناً للانسانية الساعية للحرية.
أما صمت الأنظمة العربية اليوم تجاه ما يجري من محرقة ممتدة بحق الشعب الفلسطيني، فما هو إلا الدليل الأوضح على الحقيقة الوظيفية لتلك الأنظمة كونها تُشكّل امتداداً طبيعياً لمشروع المستعمر القديم إن لم يكن أرقى أطواره وتجلياته، بعدما أعدّ المستعمر وبشكل دؤوب نُخباً تأتمر بأوامره وتتبنى نظرياته في الاقتصاد والسياسة والإعلام والثقافة والتعليم، من خلال حملة تغريب ممنهجة بدأت منذ ما قبل نشوء أكذوبة “الدولة الوطنية” وأوكل إليهم مهام إدارة تلك الدول وإدارة أزماتها المفتعلة وآليات الفساد فيها، ليصبح جهاز الدولة أداة للثراء والقمع، ومكاناً آمنا للطبقات المتنفذة وللطغم المالية، محمية بمؤسسات عسكرية وأمنية ضامنة لإعادة إنتاج نفسها بشكل دوري مقابل استمرار تبعيتها للرأسمال العالمي.
أما الهوان الذي نعيشه كشعب عربي فهو نتاج هذه الأنظمة التي تسلمت زمام السلطة بعد “أكذوبة الاستقلال” وما حقّقته من نجاحات في سحق وقمع أي محاولات للتغيير فيها، ناهيك عن تكميم الأفواه وتكبيل القدرات وتهجير أجيال من العمال والإختصاصيين وتحويل الأوطان إلى جحيم طاِرد لأبنائها الفقراء عبر قوارب الموت نحو أرض المحتل القديم طمعاً بالاستقرار.. وربما بقليل من عدل المستعمرين!