بايدن عاجز.. أم أنه لا يريد وقف حرب غزة؟

لعل أبلغ وصف للواقع الدامي في غزة منذ خمسة أشهر ونيف هو المرافعة التي ألقاها ممثل إيرلندا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي المحامي بلين ني غراليغ الأسبوع الماضي بقوله: "الأسرة الدولية تواصل خذلان الشعب الفلسطيني، وبرغم فظائع الإبادة الجماعية التي يتم بثها مباشرة من غزة إلى هواتفنا المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وشاشات التلفزيون، إنها أول إبادة جماعية في التاريخ حيث يبث ضحاياها دمارهم في الوقت الحقيقي في أمل يائس وعبثي حتى الآن، في أن العالم قد يفعل شيئاً ما".

تراجع الرئيس الأميركي جو بايدن عن موعد كان اقترحه لوقف نار مؤقت في غزة الإثنين (غداً)، مُتعللاً بـ”تعقيدات” فرضتها المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في “دوّار النابلسي” شمال القطاع عندما كانت حشود يائسة من الفلسطينيين تنتظر أول قافلة مساعدات إنسانية تصل إلى المنطقة للمرة الأولى منذ 23 كانون الثاني/يناير.

عوض أن يتخذ بايدن من المجزرة حافزاً لفرض وقف نار فوري، إذا به يتراجع ويمنع صدور بيان رئاسي عن مجلس الأمن يكتفي بابداء القلق العميق إزاء ما حصل، ثم يذهب إلى خيار المشاركة في إلقاء المساعدات الإنسانية من الجو، وهو إجراء لا تراه المنظمات المختصة بأنه مجدٍ، ولن يُبدّل كثيراً في حال 750 ألف فلسطيني عرضة للموت جوعاً.

 يريد بايدن من العالم أن يُصدّق بأن أقوى دولة في العالم غير قادرة على فرض وقف نار إنساني ولو مؤقتاً؛ فلا التحذير القوي من الناخبين “غير الملتزمين” في ولاية ميشيغن، ولا رقم الـ 30 ألف فلسطيني الذين سقطوا بالضربات الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، ولا اقتراب التوترات الإقليمية من لحظة الحروب الفعلية، ولا المطالبات الداخلية والدولية المتصاعدة بوقف فوري للنار في غزة، قادرة على اقناع بايدن بالتزحزح قيد أنملة عن رفضه ممارسة ضغط فعلي على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على وقف القتال في غزة.

منذ بدء الحرب، استخدمت واشنطن “الفيتو” ثلاث مرات لإسقاط ثلاثة مشاريع تدعو إلى وقف نار إنساني فوري في غزة، ليصير مجموع “الفيتوات” الأميركية المستخدمة أمام هذه الهيئة الدولية دفاعاً عن إسرائيل منذ انشاء الكيان عام 1948 حوالي الأربعين. ولا شيء يشي بأن بايدن في طريقه إلى رفع الغطاء الدولي عن إسرائيل أيضاً، كوسيلة من وسائل الضغط لوقف الحرب.

كل ما قيل عن نفور بين بايدن وبنيامين نتنياهو ليس دقيقاً. هذا ما يؤكده واقع أن الرئيس الديموقراطي لا يُعير كبير اكتراث لأصوات الشباب والتقدميين والسود والعرب والمسلمين الأميركيين في ميشيغن وفي غيرها من الولايات المتأرجحة الست، الذين يطالبونه بتغيير سياسته حيال إسرائيل. ربما يراهن على أن دعمه لنتنياهو يؤمن له دعماً في الداخل الأميركي يفوق التأييد الذي سيخسره من الشرائح التي تناشده وقف النار. وهذا رئيس الوزراء الإسرائيلي يُذكّره باستطلاع أجراه مؤخراً “معهد هاريس” و”مركز الدراسات السياسية الأميركية” بجامعة هارفارد، ويُظهر أن غالبية الأميركيين تدعم إسرائيل، لكنه تغافل في الوقت نفسه عن أن نسبة 67 في المئة من الشباب بين 18 و24 سنة يؤيدون وقفاً فورياً للنار.

يقول اسحق بريك:”كل صواريخنا وذخائرنا والقنابل الذكية وكل الطائرات والقنابل، كلها تأتي من الولايات المتحدة.. ولحظة يوقفون ذلك، لا يمكنك المضي في القتال، ليست لديك القدرات.. كل شخص يدرك بأننا لا نستطيع القتال في هذه الحرب من دون الولايات المتحدة.. ونقطة على السطر”

ليس مجلس الأمن الميدان الوحيد الذي يحمي فيه بايدن إسرائيل. القائم بأعمال المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية ريتشارد فيسك رافع أمام محكمة العدل الدولية، التي بدأت الأسبوع الماضي النظر في الاستشارة التي طلبتها منها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022 حول الوضع القانوني لإسرائيل في الأراضي التي احتلتها في حرب 1967، ليُحذّر المحكمة من احتمال اصدار توصية تطالب إسرائيل بالانسحاب من هذه الأراضي “من دون الأخذ في الاعتبار المتطلبات الأمنية” للدولة العبرية، معتبراً أن مثل هذه التوصية قد تضر بعملية التسوية وبحل الدولتين. عن أية تسوية وأي دولتين يتحدث فيسك؟

من بين ممثلي 52 دولة تحدّثوا أمام المحكمة، وحدها أميركا انفردت بالدفاع عن إسرائيل، وماشتها بريطانيا إلى حد ما.

يحدث هذا من دون أن تحصل واشنطن على أي مقابل من نتنياهو، ولو بالشكل. الخطة التي طرحها الأخير لـ”اليوم التالي” للحرب، حملت تسفيهاً لكل ما تدعو إليه إدارة بايدن. لن تكون هناك أي “سيادة” فلسطينية لا في غزة ولا في الضفة الغربية. والجيش الإسرائيلي سيبقى في القطاع إلى أجل غير مسمى. مضمون الخطة لا يعترف بوجود الشعب الفلسطيني حتى يعترف لهم بحق تقرير المصير، كأن إسرائيل هي عشية حرب 1967، وكأن ليفي أشكول وآبا إيبان وغولدا مائير وموشى دايان هم من يتحدثون. ما الذي يُفرّق خطاب أولئك عن خطاب نتنياهو وبيني غانتس ويوآف غالانت وايتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش اليوم؟

يقول موشي دايان في كتابه “قصة حياتي”: “كانت إسرائيل تعتقد أنها إذا وافقت على مطالب الفلسطينيين، فمعنى ذلك نسف أساس وجودها”.

وعلى المبدأ نفسه، يعتبر نتنياهو أن وقف الحرب يعني هزيمة إسرائيل وانتصار “حماس”. بينما هو في الحقيقة التي يعرفها معظم الإسرائيليين ويعرفها بايدن أيضاً، يدافع عن مستقبله السياسي، الذي تلطخ في 7 تشرين الأول/أكتوبر. كتب توماس فريدمان في عموده بصحيفة “النيويورك تايمز” الأسبوع الماضي: “إن نتنياهو مستعد للتضحية بشرعية إسرائيل الدولية التي تم الحصول عليها بشق الأنفس من أجل احتياجاته السياسية الشخصية، ولن يتردد في إسقاط بايدن معه”.

إقرأ على موقع 180  "الإنتحاري" فرنسيس وأمراض الشرق.. والشفاء البعيد

تروي “الغارديان” البريطانية، أن الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، عندما تلقى مكالمة جوابية من رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عام 1982 يُبلّغه فيها بأنه أوعز إلى وزير دفاعه آرييل شارون بوقف قصف بيروت يوم “الخميس الأسود” في 12 آب/أغسطس من عامذاك، ترك سماعة الهاتف والتفت إلى أحد مساعديه قائلاً :”لم أكن أعلم أنني أمتلك هذا النوع من القوة”. كان ريغان اتصل قبل عشرين دقيقة ببيغن طالباً منه وقفاً فورياً للنار، وقيل إن المكالمة أتت بعدما تأثر الرئيس الأميركي لمشهد طفل لبناني جريح. ماذا عن 25 ألف طفل وإمرأة أكد وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أمام لجنة في مجلس النواب الأميركي الخميس، أنهم قضوا في غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر؟

بروس ريدل الذي أمضى ثلاثة عقود في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ومجلس الأمن القومي قال في مقابلة نشرت له مؤخراً: “يومياً، نزوّد إسرائيل بالصواريخ والمُسيّرات والذخيرة، التي تحتاجها من أجل المضي في حملة عسكرية رئيسية مثل الحملة التي تشنها في غزة”. ومع ذلك، يعترف ريدل بأن “الرؤساء الأميركيين كانوا خجولين في ما يتعلق باستخدام تلك الرافعة، وذلك لأسباب خاصة بالسياسة المحلية”.

والميجور جنرال الإسرائيلي المتقاعد اسحق بريك يقول:”كل صواريخنا وذخائرنا والقنابل الذكية وكل الطائرات والقنابل، كلها تأتي من الولايات المتحدة.. ولحظة يوقفون ذلك، لا يمكنك المضي في القتال، ليست لديك القدرات.. كل شخص يدرك بأننا لا نستطيع القتال في هذه الحرب من دون الولايات المتحدة.. ونقطة على السطر”.

جو بايدن غير منزعج من استمرار الحرب، ولا من سقوط ما نسبته 1.3 في المئة من سكان غزة في القصف الإسرائيلي، وكل ما يتحدث عنه من مسار سياسي يوصل إلى حل الدولتين، غير قابل للصرف في خضم الإبادة الحاصلة

السفير الإسرائيلي الأسبق لدى الأمم المتحدة مايكل ب. أورين المعروف بازدرائه للمنظمة الدولية ومحكمة العدل الدولية وهيئات أخرى، يُقرّ بأن أي تغيير في موقف الولايات المتحدة، المزوّد الرئيسي لإسرائيل بالسلاح والحليف السياسي القوي، والمدافع الرئيسي عنها في المحافل الدولية، “سيكون أمراً مختلفاً”.

رداً على ذلك، يُصرّح الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر في مؤتمر صحافي في 12 شباط/فبراير: “أعتقد أنه في بعض الأحيان يدعي الناس أن الولايات المتحدة لديها عصا سحرية في استطاعتها التلويح بها من أجل جعل الأمور في العالم تسير وفق ما ترغب، لكن ليست هذه هي الحال”.

هذا بمثابة دفاع غير مقنع عن عجز أميركا عن الضغط على أقرب حليف لها في الشرق الأوسط لوقف الحرب. وعندما يفصل نتنياهو بين الهدنة المحتملة والهجوم الذي يعد له على رفح، لا يعترض بايدن على مبدأ الهجوم وإنما يطالب بـ”حماية المدنيين” قبل ذلك!

 كل هذا يُعزّز فرضية أن بايدن غير منزعج من استمرار الحرب، ولا من سقوط ما نسبته 1.3 في المئة من سكان غزة في القصف الإسرائيلي، وكل ما يتحدث عنه من مسار سياسي يوصل إلى حل الدولتين، غير قابل للصرف في خضم الإبادة الحاصلة.

في 7 آذار/مارس الجاري سيُلقي جو بايدن خطاب “حال الإتحاد”، وسيُكرّر فيه الحديث حول ما يراه من مهمة تاريخية تقوم بها أميركا في محاربة الاستبداد في العالم، ويربط بين حربي أوكرانيا وغزة وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين و”حماس”.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  ماذا تقول الديموغرافيا عن مستقبل إسرائيل.. و"أخواتها"؟