كيف ينتج الإحساس بالرائحة؟
تنشأ الروائح عن الجزئيات الكيميائية التي تنبعث من المواد والأجسام وتتطاير في الهواء. وعندما تدخل الأنف مع الشهيق، تذوب في مخاطه وتنبّه خلايا القسم الأعلى من الأنف صاحبة الأهداب الدقيقة اللاقطة للروائح. وتعمل خلايا الشمّ في صورة منفردة أو مجتمعة، وهي تتجدد باستمرار. ولا يتوقف الإنسان عن استمزاج الروائح وتحليلها. تصل إشارة رائحة إلى المنطقة الحسّاسة، تتواتر إلى مراكز الشعور القريبة جداً من الدوائر العصبية المسؤولة عن العواطف والذاكرة، فيتم التعرّف وتمييز الروائح وتخزين المعلومات. ويقوى الإحساس بالرائحة حين تزيد كثافة الجزئيات المتطايرة في الهواء. لكننا نتأقلم مع رائحة معينة بعد أن تتشبّع الأهداب الدقيقة.
النضوج المبكر
منذ ساعات حياته الأولى يُبدي الوليد حساسية عالية حيال الروائح. فحاسّة الشمّ جاهزة باكراً للعمل. وعندما نعرض عليه روائح اليانسون أو الورد أو الخلّ أو بعض الأسماك، يتفاعل وتظهر على قسمات وجهه علامات انشراح أو امتعاض، ويُبدّل من سرعة تنفسه. لكن تكرار التجربة واستعمال المثيرات ذاتها يُخفّف من ردود فعله، لأن الطفل الصغير يتعوّد على الروائح. إلا أنه يميل إلى ما كان أحبه منها وحَفِظهُ في ذاكرتهِ البكر. وتتميّز حاسّة الشمّ بالنضوج المبكر وبقابلية على التعلّم الدائم وتمييز الروائح.
جرت عادة اجتماعية عند بعض القبائل الإفريقية تقضي باختبار رائحة المرأة قبل الخطوبة. وتحرص النساء في إفريقيا على وضع الزيوت المعطّرة ومضغ النباتات التي تُطيّب رائحة الفم. ولا تنسى العطور الأفريقية ذات الرائحة القوية ولا البخور
خلال أسبوع حياته الأول، لا يتردد الوليد أو يخطئ في التعرّف على رائحة أمه. يعثر على حلمة ثديها عن طريق الشمّشمة. والأم بدورها، تتعرّف على مولودها الحديث الولادة من رائحته وحدها. وأظهرت المراقبة العينية كيف لا ينخدع الأطفال في التعرّف على أمهاتهم. وكيف يهدأ الوليد ويتوقف عن البكاء عند شعوره برائحة أمه، بعد غياب. قدرات رائحة الأم تكون مستقلة عن حاجة الوليد للطعام. فهي إذن قدرات محض عاطفية. حاسّة الشمّ هي الأساس في العلاقة الحميمية بين الأم ووليدها. رائحتها تساعده على النوم.أطفال مصابون بالأرق اقترح أطباء على أمهاتهم أن يستعملوا قطعة قماش حملتها الأم يوماً أو يومين أو شرّبتها من حليب ثديها.
ويستمر تعلّق الطفل برائحة أمه قوياً حتى عمر الخمس سنوات. وتكون حاسّة الشمّ في أقوى حساسيتها بين العشرين والأربعين، وتخفّ بعد عمر الستين. وتتفوق النساء على الرجال في قدرتهن على تحسس الروائح. وتزيد حساسيتهن بين الشهر الثاني والشهر الرابع للحمل. وتكون رائحة أجسادهن في أقصاها وقت الإباضة.
الروائح.. والطعام والغرام
لحاسّة الشم أدوارٌ جليلةٌ، عظيمةُ التأثير على مجريات حياتنا اليومية. فنحن نستشعر المذاقات بفضل حاسّة الشمّ. وإذا كانت حاسّة تذوّق الأطعمة تدلّ على الطعم السكري والمالح والحامض والمرّ. فالكثير من المذاقات تبقى من مسؤولية الشمّ. فالمأكولات تكون بلا طعم إذا تعطّلت حاسّة الشمّ بسبب أمراض فيروسية كالرشح وأمراض الغدد والأعصاب أو بسبب التدخين.
مفتاح الجاذبية الجنسية
لحاسّة الشمّ المقام الأول في الجاذبية الجنسية بين الأنثى والذكر. جسدنا له رائحة خاصة بنا، تُميّزنا كالبصمة وتتأثر بالعمر والجنس والعرق. وأثبتت بعض البحوث العلمية في العقود الماضية، أن صنفاً من النساء ينجذبن للروائح، خاصة في فترات الحمل.
تنشأ هذه الرائحة من افرازات تمتزج في مناطق الجسم كثيفة الشعر مع روائح البكتيريا التي تتعايش معه. ولكلٍ فرموناته. وهذه الفرمونات تُحدّد قابلية واحدنا للآخر من الناحية الجنسية. وتفسّر ذاك الانجذاب الغامض نحو شخص بعينه. لكن كثيرين منذ أول التاريخ، لا يتركوا رائحتهم على حالها، بل يُنفقون الجهد والأموال الطائلة على التطيّب بالزيوت والعطور. ولقد عمد الإنسان على ابتداع الروائح ومزجها؛ استعمل في سبيل ذلك، الروائح الطبيعية للأزهار، كالورد والياسمين والفانيلا. كما أضاف مستحضرات كيمائية تدل على روائح الزنبق والسوسن والميموزا.
واعتبرت شعوب الاسكيمو والهنود الحمر رائحة الأنثى أهم معيار للجمال. وجرت عادة اجتماعية عند بعض القبائل الإفريقية تقضي باختبار رائحة المرأة قبل الخطوبة. وتحرص النساء في إفريقيا على وضع الزيوت المعطّرة ومضغ النباتات التي تُطيّب رائحة الفم. ولا تنسى العطور الأفريقية ذات الرائحة القوية ولا البخور. وبالعموم تنال المرأة التي تحافظ على نظافتها وتضع العطور، الإعجاب والاطراء.
لحاسّة الشمّ المقام الأول في الجاذبية الجنسية بين الأنثى والذكر. جسدنا له رائحة خاصة بنا، تُميّزنا كالبصمة وتتأثر بالعمر والجنس والعرق. أثبتت بحوث علمية في العقود الماضية، أن صنفاً من النساء ينجذبن للروائح، خاصة في فترات الحمل
الحب بالفرومون
لعل رائحة الجسم والفرومونات هي المسؤولة عن سقوط البعض صرعى الحب بأُنوفهم. وجعلتهم رائحة الحبيبة في حالة عشق وهيام.
بدأ الاهتمام بالفرومون سنة 1911 إذ وُضع إناث الفراشات في قفص وأُبعدَ الذكور 5 كلم. لكن الذكور عادوا واقتربوا من القفص. فلعل جُزئية كيميائية ترسلها الأنثى لاستدراج الذكر.. فاعتبرت الفرومونات أدوات تواصل موجّهة بهدف اختيار الشريك الجنسي. نتبادل سهامها لإثارة الجنس المقابل وتحريك رغباته. ومع تطور الأبحاث العلمية حول الفرُمونات، وبخاصة التجارب التي مزجتها بالعطور. وجد أصحاب الرساميل المالية ضالتهم الربحية. واتجهوا لتصنيع عطور مدعّمة بالفرومونات. وكانت دعاية عنوانها: العطر العجيب لجلب الحبيب. وشعارات تضرب على وتر الجاذبية الجنسية الحساس، وتر زيادة الرغبة والنشاط الجنسي. فكان استغلالٌ كبير لنظرية الحب بالشمّ. تحمس لها المستفيدون من الأرباح السريعة الباهظة. لكن، ناهضها آخرون يدافعون عن تأثير حاسة الشم في حياتنا الجنسية، ولكن يشكّكون في عجائب مزايا العطر المدعّم بالفرومون.
الشم في شعر الحب عند العرب
التقطنا بعض الأمثلة الشاعرية. إذ تتوحّد على الدوام صورة المحبوبة وذكراها مع طيب رائحتها وعطرها الفوّاح الذي يترك في الذات العاشقة مفاعيله السحرية.
بشّار بن برد وصف نوع هذه الرائحة بأنها “رائحة المسك والريحان”
مجنون ليلى وجد رائحتها في ثيابها: «فما مس جنبي الأرض إلا ذكرتها وإلا وجدت ريحها في ثيابها»
المتنبي اعتبر رائحتها تُشبّب الشيخ: «وفَتّانَةَ العينيْنِ قَتّالَةَ الهوى إذا نفَحَتْ شَيخاً روائحُها شبّا»
كما وتُعيد لمجنون العشق، العقل والتوازن: «يجن شوقا فلولا أن رائحة تزوره في رياح الشوق ما عقلا»
وأحيت رائحة المحبوبة عظام العباس بن الأحنف: «هاجت لي الريح منها نفح رائحة أحيت عظامي وهاجت طول تذكاري»
وكان عمر بن الفارض وصف طيب الحبيب فوجد له مزايا علاجية: «ولو عبقت في الشرق انفاس طيبها وفي الغرب مزكومُ لعادَ لهُ الشمُّ».
وفي الخلاصة، نشتمّ مما ذُكر، أن أنفنا هو رادارنا الساهر حين ننام. واثق الحضور في ما يتعلّق بالطعام والغرام. وأن لحاسّة الشمّ البسيطة التنظيم، قدرات عظيمة وأسرار. حاسة تنضج باكراً وتقوى مع التدريب والتلقين، فتصل قدرات ”الشمّام“ المدرّب على تمييز أربعة آلاف رائحة مختلفة وقيل عشرة آلاف.. والله أعلم.