مشكلة لبنان، ليست في النّاس.. بل فيهم “هُم”!

درجت المقولة التّالية، على لسان بعض السّياسيّين في لبنان، ومفادُها مع التّبسيط: أنّ المشكلة في نهاية الأمر.. هي في "المواطن" اللّبنانيّ أو في "النّاس". إذا كانت أغلب النّخب والقيادات السّياسيّة والمؤسّساتيّة في لبنان فاشلة و/أو فاسدة و/أو مقصّرة؛ فذلك لأنّ الشّعبَ نفسَه فاشلٌ وفاسد! أدافع في هذا المقال عن فكرة مفادُها أنّنا بالطّبع أمام كلامٍ باطِلٍ.. يُرادُ بِهِ باطلٌ ومن النّوع الخبيث جدّاً (إذ: بطلَ عنديَ الكلامُ والمُرادُ في هذه المقولة ووراءَها).

تتكرّر هذه المقولة للأسف على لسان وبقلم بعض الكوادر المحترمة في المجتمع اللّبنانيّ وعلى السّاحة اللّبنانيّة. منهم من لا نيّة سيّئة لديه، ومنهم من يستخدمها لأهداف أبعد، جوهرها بالطّبع هو: التّخفيف على الطّبقة السّياسيّة والمؤسّساتيّة التي تحكم هذا البلد منذ أوائل تسعينيّات القرن الماضي.. أو تبرئتُها. خلاصة الطّرح الضّمنيّ الكامن وراء هذه المقولة يمكن التّعبير عنها بالشّكل التّالي: لا لومَ على الطّبقة الحاكمة إِذَنْ.. طالما أنّ المشكلة هي في المواطنين أنفسهم. وهل يُلام غُصنُ الشّجرةِ إذا ما فسدَ التّرابُ الذي نَمَت هذه الأخيرة منه وعليه؟

الهدف الأساسيّ المقصود واضحٌ إذن: تبرئة بعض أو أغلب النّخب والقيادات التي أوصلت الدّولة ومؤسّساتها إلى هذا الفشل وإلى هذا المرض المزمن.. وأخيراً إلى هذا الانهيار الفريد من نوعه وفي حجمه. أيّها اللّبنانيّون: لقد حصل بكم ما حصل بسببكم أنتم، ولَمْ يَظلمْ في لبنانَ أَحَدٌ أحَدا! بل أنتم قد ظلمتم أنفسكم في حقيقة الأمر! ومن يتجرأ منكم على الاعتراض أو التّظاهر فهو في موقعٍ قريبٍ من الوقاحة في الواقع. فالأجدرُ أن يتظاهرَ اللّبنانيّون.. ضدّ أنفسهم! ولا يَظلمُ هؤلاءُ الزّعماءُ منكمْ أحدا!

وإذا ما كان أغلب الطّبقة السّياسيّة والمؤسّساتيّة الحاكمة هو المستفيد النّهائيّ الأساسيّ من مقولة الباطل والفساد هذه، فالبعض ربّما يختبئ وراءَها أحياناً كثيرةً لكي يتهرّب من الحديث حول أسباب الانهيار الحقيقيّة في لبنان (وحول المسؤولين الحقيقيّين). والبعض يستعملها ربّما من أجل تعميم سياسة النّعامة (Politique de l’autruche)، أو من أجل تعميم الفكرة الوهميّة القائلة بأنّ هناك سرقةً وفساداً.. لكن من غير سارقين ومن غير فاسدين. أُنظرْ ما أروع هذه الفكرة الفريدة: هناك فسادٌ في لبنان، لكن بِغيرِ فاسدين!

وقد يستخدمها بعض رجال “الدّين” – لا رجال “الله” – لكي يتشدّدوا في الموعظة على النّاس، بدلاً من أن يتشدّدوا في كشف أهل السّلطة والاستئثار والاستكبار كما تطلب منهم أديانهم وكتبهم المرسلة (فالله يأمرُ بالعدل والإحسان عندهم.. لكن على النّاس المستضعفة فقط، لا على الحكّام والزّعماء والمستأثِرين).

هذا بالنّسبة إلى ماهيّة المقولة بالنّسبة إليّ، وإلى الأهداف من وراء تعميمها وتسويقها في هذا التّوقيت في لبنان، وبالنّسبة إلى المستفيدين المباشرين وغير المباشرين منها (والمتآمرين معهم من مثقّفين وإعلاميّين ورجال “دينٍ” لا رجال “إلهٍ” عادلٍ عزيزٍ حكيم). وكما سبق وذكرت، فهي من وجهة نظري: مقولة باطلة، وذلك لأسباب متعدّدة ومتنوّعة.. قد يكون عمودها الفقريّ هو حقيقة أنّ القيادات والنّخب هي من تصنع الثّقافة المُهيمِنة في مجتَمَعٍ ما.. لا عامّة النّاس والجماهير.

***

هل يدّعي عاقلٌ مثلاً أنّ عامّة الشّعوب الأوروبيّة هي التي بنت مفاهيم وقِيم “الأنوار”؟ أو يدّعي عاقلٌ أنّ “الشّعب الفرنسيّ” هو الذي قام بالثّورة الفرنسيّة؟ أو أنّ “الشّعوب الجرمانيّة والأنجلو-ساكسونيّة” هي التي فجّرت الثّورة الصّناعيّة الكبرى؟ أو أنّ “الشّعب الرّوسيّ” قام بالثّورة البلشفيّة؟ أو أنّ الجماعة الصّينيّة الفلانيّة، هي التي قامت بالثّورة الحمراء في هذا البلد؟

يمكننا الادّعاء، بلا مخاطرة مفاهيميّة تُذكر، أنّ القاعدة العامّة هي كما يلي – وبما يعني المجتمعات البشريّة بشكل عامّ: إنّ النّخب والقيادات، بمختلف أشكالها وأنواعها، هي التي تبني المفاهيم والقِيم الأساسيّة ضمن الجماعة وضمن المجتمع، وهي من يعمل على الحفاظ عليها، وعلى ترسيخها، وعلى نشرها، وعلى انتقالها من جيلٍ إلى جيل. أعتقد أنّنا هنا أمام قاعدة من النّوع القويّ والعامّ. فمن غير المقبول عقلاً ولا مُلاحظةً اعتبار أنّ العامّة ضمن جماعة أو مجتمع ما: هي التي تقوم بهذه المهمّة الواعية أو غير الواعية، المخطَّط لها أو التّلقائيّة.

لنأخذ أمثلة مركزيّة في التّاريخ الإنسانيّ. فهل يُحكى لنا عادةً عن دينٍ أُوحِيَ إلى عامّة النّاس ورفضته خاصّةٌ منهم، أم أنّ العكسَ هو الذي يمثّل القاعدة عادةً.. حيث تقوم نُخبةٌ من النّاس بنشر دينٍ جديد طارحةً أو فارضةً له على العامّة؟ وكذلك بالنّسبة إلى القفزات الأهمّ في الفكر الإنسانيّ: هل نسمع عادةً عن تحوّل مفاهيميّ أو قِيَميّ في تاريخ جماعةٍ ما.. حملته عامّة النّاس، أم القاعدة هي أن تحملَه نُخبة من هؤلاء بناءً وحفظاً وترسيخاً ونشراً وانتقالاً؟

هل يدّعي عاقلٌ مثلاً أنّ عامّة الشّعوب الأوروبيّة هي التي بنت مفاهيم وقِيم “الأنوار”؟ أو يدّعي عاقلٌ أنّ “الشّعب الفرنسيّ” هو الذي قام بالثّورة الفرنسيّة؟ أو أنّ “الشّعوب الجرمانيّة والأنجلو-ساكسونيّة” هي التي فجّرت الثّورة الصّناعيّة الكبرى في أوروبا وأميركا؟ أو أنّ “الشّعب الرّوسيّ” قام بالثّورة البلشفيّة؟ أو أنّ “الشّعب الصّيني”، أو حتّى الجماعة الصّينيّة الفلانيّة، هي التي قامت بالثّورة الحمراء في هذا البلد؟

والأمثلة كثيرة وتكادُ لا تُحصى، بحيثُ نرى بوضوح أنّ نُخَب وقيادات الشّعوب: (١) هي التي تقوم ببناء ونشر المفاهيم والقيم الأساسيّة للجماعة؛ و(٢) هي بالتّالي المسؤول الواقعيّ الأوحد عن هيمنة منظومة مفاهيميّة أو قِيميّة معيّنة ضمن جماعة أو مجتمع ما.

هل يستوي قولُنا إنّ عَرَب عدنان وقحطان – بعامَّتهم: قد خرجوا فجأةً من الصّحراء ومن الحجاز ومن نجد ومن عُمان ومن اليمن وغيرها.. بمنظومة مفاهيميّة وقِيَميّة ثوريّة وجديدة، وتوجّهوا بها إلى العالَمين؟ وكذلك بالنّسبة إلى رمزيّة قصّة نوحٍ “ومَن حُمِل مَعَه” على السّفينة، وبالنّسبة إلى قصّة آل يعقوب وإسرائيل، وقصّة خروج موسى ونجاة من نجا معه من “المؤمنين”.

إقرأ على موقع 180  حتى يكون حزب الله "لاعبًا" أكثر.. إقناعًا

وكذلك أيضاً بالنّسبة إلى قصّة يسوع المسيح كما ترويها الأناجيل الأربعة: هل تَبِعَه إلّا قومٌ ذوو عددٍ قليل؟ وكم من الزّمن قضى أتباعُه وأتباعُ أتباعِه.. يتعرّضون للقمع وللظّلم وللعذاب الأليم؟ بل إنّه لَمِن المشروعِ طرحُ السّؤال النّموذجيّ التّالي وبطريقة موضوعيّة: هل وصلت المفاهيم والقِيم المسيحيّة إلى هذه القوّة في الرّسوخ وفي الانتشار لولا أن اعتنق أحد أباطرة روما هذا الدّينَ الجديد (و”عمَّمه على العامّة” إن جاز التّعبير)؟

حتّى في التّاريخ الحديث لِلُبنانِنا الحبيب.. الأمثلة كثيرة ومتعدّدة. فخذْ مثَلاً بعض الفئات ضمن المجتمع اللّبنانيّ، والتي كانت تملأ الشّوارع تظاهراتٍ وهتافاتٍ “ناصريّة” في الخمسينيّات والسّتّينيّات والسّبعينيّات من القرن الماضي.. قبل أن تملأ الشّوارعَ ذاتَها بمظاهراتٍ وهتافاتٍ موالية للسيّاسة السّعوديّة وحلفائها في مدّة من الزّمن لا تتعدّى بضعَ سنين! هل يُمكن تفسير التّحوّل العجيب في “مزاج” هذه الجماهير بغير تغيّر نُخبِها وقياداتِها؟

وكذلك الأمر بالنّسبة إلى بعض البيئات التي كانت ترفع شعار مواجهة “الانعزاليّين”، حتّى قال بعضهم إنّ أحد أهمّ أسباب اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان عام ١٩٧٥ هو المواجهة بين “العروبيّين” من جهة وبين “الانعزاليّين” من جهة أخرى. بعد بضع سنين: ترى البيئات نفسَها والجماهير نفسَها تتظاهر جنباً إلى جنب مع مؤيّدي أكثر “الانعزاليّين” تطرّفاً في هذا البلد.. وهل حصل ذلك بسبب تغيّر رأي العامّة لدى هذه الجماعات، أم بسبب تغيّر رأي وتموضع قياداتِها؟

وهلّم جرّ: كيف تحوّلت بعض البيئات من أولويّة مواجهة حركة “فتح” (والمشروع الفلسطينيّ بشقّه العَرَفاتيّ عموماً).. إلى أولويّة تحرير القدس، ولو تخلّف الفلسطينيّون أنفسهم عن الأمر أو قصّروا فيه (لا سمح الله).. أو: ولو تخلّف عن ذلكَ الأمرِ العربُ والعجمُ والمسلمونَ والنّاسُ أجمعون؟

وكيف تحوّلت بعض الأوساط الشّعبيّة من النّزعة العدائيّة الباطنة والظّاهرة لأيّ مشروع مقاوم للمشروع الأميركيّ و/أو الغربيّ بشكل عامّ.. إلى طلائع مقاومين مُقبِلين غير مُدبِرين. وقد حصل ذلك بسبب تفاهم قيادَتَين رمزيَّتَين على مشروع سياسيّ مستجدّ في لحظة سياسيّة واقليميّة معيّنة. وأيضاً: كيف انتقلت بعض الأوساط الشّعبيّة من مُعاداة كلّ ما هو عروبيّ.. إلى طليعة فتيان وفتيات العروبة الجديدة – المعادية للفُرس و”للمَجوس” أجمَعين – والمموَّلة والمدعومة من قومٍ ذوي نَسَبً وحَسَبٍ وبَلَدٍ ولِسانٍ عربيٍّ مُبين؟

***

هل يستوي قولُنا إنّ عَرَب عدنان وقحطان – بعامَّتهم: قد خرجوا فجأةً من الصّحراء ومن الحجاز ومن نجد ومن عُمان ومن اليمن وغيرها.. بمنظومة مفاهيميّة وقِيَميّة ثوريّة وجديدة، وتوجّهوا بها إلى العالَمين؟ وكذلك بالنّسبة إلى رمزيّة قصّة نوحٍ “ومَن حُمِل مَعَه” على السّفينة، وبالنّسبة إلى قصّة آل يعقوب وإسرائيل، وقصّة خروج موسى ونجاة من نجا معه من “المؤمنين”

الأمثلة وتفاصيل مختلف جوانب المسألة لا يُمكن ذكرها جميعاً في هذا المقال ولا في هذا المقام. ولكنّ جوهر القضيّة يكمن إذن في: أنّ اللّعبة هي لعبة بين قِيادات ونُخب في الأعمّ الأغلب. ومن قوانين الحياة أن تَتَّبِعَ العامّةُ من النّاس الخاصّةَ منهم (أو خاصّةَ الخاصّةِ في بعض الأمثلة، وهذا بحثٌ باطنيٌّ له مواضعُه ومناسباتُه الأخرى إن شاء الله تعالى).

قِيلَ في الماضي إنّ النّاسَ لَعَلى دِينِ مُلوكِهم. أمّا بالتّعبيرِ المعاصرِ فيمكننا القول: إنّ النّاسَ، في الأعمّ الأغلب، هي لَعَلى مَفَاهِيمِ وقِيَمِ قادَتِها ونُخَبِها. (وأكادُ أقول: يصحّ ذلك خصوصاً في لبنان!).

من هنا، فمن البَيِّن الجَليِّ بالنّسبة إليّ أنّه إذا عمّ الفساد في لبنان، أو انتشرت بعض المفاهيم الخاطئة أو القيم الفاسدة (ومن قبيل ذلكم)، فمن الباطل – بل لَمن المُعيب – الادّعاء بأنّ ذلك هو بسبب “النّاس”!

من الواضح أنّ السّبب الرئيس وراء ذلك الواقع هو في الحقيقة: أغلبُ قِياداتِ ونُخبِ هذا الشّعب، والتي يجوز اتّهامها إن لم يكن بالإفساد في الأرض.. فبالتّقصير العظيم. فاتركوا النّاس الذين تبتزّونهم غالباً في أمنهم الشّخصيّ، وفي أمنهم الصّحيّ، وفي أمنهم الاقتصاديّ، وفي أمنهم التّربويّ، حتّى تُجبروهم عمليّاً على اتّباعكم والتّصويت لكم مُرغَمين غير طائِعين: اتركوهم بسلام، وركّزوا على مراجعة أخطائكم وقراراتكم الفاشلة ومشاريعكم السّياسيّة والاقتصاديّة والمؤسّساتيّة والحزبيّة الكارثيّة (في الأعمّ الأغلب، إلّا ما رحمَ ربيّ وهم قليلٌ قليل).

ومن لا يخافُ النّاسَ المستَضعفةَ اليوم، فلْيَخَفْ من عاقِبةِ ظُلمِ النّاس. وتلكَ العاقبةُ آتيةٌ لا رَيبَ في ذلك أبداً، وعداً من الوجودِ “الحقِّ” نفسِه جلَّ وتباركَ وعلا: في العاجلِ أو في الآجل.. في هذه الدّنيا أو في غيرها. وما على كُتّابِ المقالاتِ إلّا البلاغُ الكلاميُّ والثّقافيُّ والصّحفيُّ المُبين.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  محرقة غزة والضفة.. تنسف الأساطير المؤسسة لإسرائيل!