بعد عامين ونصف العام على تسلّمه سدّة رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، لا يزال دونالد ترامب يراهن على سياسة الحرب التجارية مع الصين بغية إخضاعها وتعديل كفة الميزان في ما يتعلّق بالتبادل التجاري بين أقوى اقتصادين في العالم.
وفي حين بات تأثير هذه الحرب التجارية على الاقتصاد العالمي ككلّ يظهر توجّهاً نحو ركود يؤدي الى بطء النمو في الناتج المحلي العالمي، بدأ الحديث يزداد في الأقطار العربية عن التأثيرات المباشرة لهذه الحرب على دول المنطقة، بدءاً من الاقتصاد وصولاً الى التحوّلات الجيـوسياسية المرتقبة.
ما يحصل اليوم على ساحة التجارة الدولية يمثل بصورة جوهرية تصعيداً لسلسلة من التعريفات العقابية، أو الضرائب التي بدأت كل دولة في فرضها على الواردات القادمة من الأخرى. وكانت ضربة البداية من الولايات المتحدة التي فرضت تعريفات جديدة وصلت إلى 25 في المئة على واردات صينية شتى بقيمة تقدر بمئات المليارات من الدولارات. وبعد ذلك، انتقمت الصين بالأسلوب نفسه، وصرنا ندور في هذه الحلقة المفرغة حيث ترتفع قيمة التعريفات وقيمة الواردات المستهدفة عند كلّ دورة جديدة.
ولئن كان ترامب وضع تعديل العجز التجاري مع الصين على سلّم أولوياته مذ أعلن ترشّحه للرئاسة الأميركية عام 2015، فهو اليوم يبحث عن أية طريقة للوصول الى مبتغاه قبل خريف العام 2020 الذي سيشهد حدث الانتخابات الأميركية المقبلة، في وقت لا يجد ترامب في يده سوى ورقة “الاقتصاد القوي”، التي بدأت تذوي مع تزايد الحديث عن ركود إقتصادي مرتقب، لمواجهة المرشح الديموقراطي، ما يشي بإمكان حدوث أمر من اثنين: إمّا الذهاب الى حلّ عقلاني وحوار بين واشنطن وبكين، وإمّا اشتداد الخطوات العقابية بينهما، وهو ما تؤشّر إليه تصريحات ترامب الأخيرة عن كونه “نادم” على عدم فرض تعريفات أكبر على الواردات الصينية.
في ما خص المنطقة العربية، والتأثيرات المحتملة لهذا الصراع عليها، نجد أنّ إجمالي التجارة العربية مع الصين بلغ في عام 2016 نحو 210.1 مليارات دولار، وهو ما يمثل 13.1 في المئة من مجمل التجارة العربية، حيث بلغت الصادرات العربية إلى الصين 78.8 مليار دولار، بينما بلغت الواردات العربية من الصين 131.3 مليار دولار، ليفضي الميزان التجاري إلى تحقيق فائض لصالح الصين بنحو 52.5 مليار دولار.
وفي المقابل، بلغ حجم التجارة العربية مع الولايات المتحدة 106.6 مليارات دولار، وبما يمثل نسبة 6.6 في المئة، حيث بلغت الصادرات العربية للولايات المتحدة 37.4 مليار دولار، بينما بلغت الواردات العربية من الولايات المتحدة 69 مليار دولار، وبذلك يظهر الميزان التجاري فائضا تجاريا لصالح الولايات المتحدة بنحو 31.8 مليار دولار.
التأثيرات الجيو – سياسية لهذه “الحرب” قد تعيد رسم الخريطة السياسية للمنطقة، خصوصاً مع إصرار الصين على العودة الى مشاريعها في ايران، ودخولها بقوة على خطّ إعادة إعمار سوريا والعراق، وصولاً الى اهتمامها المستجدّ بالدخول الى السوق اللبناني
إذا استمرت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتسببت بالتالي في تباطؤ النمو أو حتى حالة ركود تصيب الاقتصاد العالمي، فإن هذا سيؤدي منطقياً إلى تقليص نمو معظم اقتصاديات الشرق الأوسط هي الأخرى. ويعود ذلك الى أن أسعار النفط تميل في الغالب إلى الارتباط المباشر بالإمكانات الاقتصادية العالمية، وعندما تنكمش هذه الإمكانات، تميل أسعار النفط نحو الانخفاض هي الأخرى. وبما أنّ العديد من دول المنطقة تعتمد اقتصادياً على عائدات النفط، فهي تخشى من التعرض لأضرار مضاعفة.
وهنا لا بدّ من التطرّق الى دول الخليج التي يحتمل أنّ تتضرّر من انخفاض سعر النفط في احتمال الركود العالمي، كما لا بد من التذكير أنّ عدداً من الدول العربية القابعة على المتوسط كمصر وسوريا ولبنان تبني الكثير على استخراج النفط والغاز من قبالة شواطئها، وهي في حال انخفض سعر النفط والغاز ستضطرّ الى إعادة النظر في خططها المستقبلية.
الى ذلك، ثمّة نقطة أساسية لا يجوز إغفالها، وتقوم على أن دول الشرق الأوسط لن تجد نفسها في المجمل واقعة في ورطة الاختيار بين بناء روابط قوية مع الصين أو الولايات المتحدة. ومع ذلك تبقى هناك مجالات حيوية قليلة ربما سيتعين فيها على دول المنطقة الاختيار بين التقرّب من الولايات المتحدة أوالصين، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات جيوسياسية على المنطقة. من بين هذه المجالات القطاع الأمني-العسكري وما يرتبط به من تجارة واستثمارات، بالإضافة الى قطاع الاتصالات الحيوي.
ومن بين الأمثلة في هذا الجانب الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا الاتصال عن بعد من شركة “هواوي” الصينية، وبيع معدات عسكرية أميركية لدول المنطقة. وإذا تفاقم الصدع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، فإن اهتمام كل منهما ربما يتزايد بتقييد سوق صادرات مثل هذه السلع الحساسة، وحرمان الأخرى منها، كما يبان اليوم واضحاً في فرض الولايات المتحدة عقوبات على شركة “هواوي” ووضعها على اللائحة السوداء لمحاولة منعها من بيع منظومة اتصالات “ج 5” التي انفردت في تطويرها قبل الشركات الأميركية، والتي تلقى طلباً عالمياً عليها. في هذه الحالة، ستتعرض دول الشرق الأوسط لضغوط أكبر من أي وقت مضى كي تتخذ قرارات صعبة تجاه هذه الخيارات الحيوية.
وبعد الحديث المستفيض عن الدول العربية، لا بدّ من الإشارة الى ايران التي تخوض اليوم حرباً تحت الطاولة مع الولايات المتحدة الأميركية التي تحاول خنقها اقتصادياً، في وقت تشكّل الصين إحدى المنافذ الأخيرة لها لبيع نفطها. ومع احتدام الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، نجد أنّ الأخيرة أعادت الروح الى ثلاث مشاريع كبرى كانت تعمل عليها في ايران، أبرزها مشروع استثمار حقل جنوب فارس الغازي (SP11)، ومشروع بناء مرفأ “جسق” لتصدير النفط في خليج عمان، كما بناء البنية التحتية لهذا المرفأ كمدّ أنابيب نقل النفط من المحافظات الايرانية الى المرفأ، وصولاً الى بناء حاويات بقدرة استيعابية تبلغ 30 مليون برميل، وبقدرة تصدير تبلغ مليون برميل يومياً.
في هذا السياق، من المفيد الإشارة الى كمّ المقالات التي انتشرت في المواقع والصحف الاقتصادية العالمية، والتي تحذّر من مغبّة الضغط على الصين ومحاولة دفعها للخروج من ايران، وصولاً الى التهديد باستخدام ما يسمّى “الخيار النووي” الصيني، والقائم على بيع كلّ أو جزء من سندات الخزينة الأميركية التي تمتلكها بكين والبالغة قيمتها حوالي 1.4 تريليون دولار، وهي خطوة إن حصلت ستعيد تغيير المشهد الاقتصادي العالمي كلّه.
ختاماً، من المحتّم أن تشعر دول الشرق الأوسط كافة بتأثيرات الحرب التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين، تماماً كما يتأثر بتداعياتها الاقتصاد العالمي ككلّ. وإن كانت التأثيرات الاقتصادية لهذا الصراع على الدول العربية غير مباشرة حتّى اللحظة، مع إمكان الدول العربية الوقوف على خطّ التماس بين بكين وواشنطن، إلّا أنّ التأثيرات الجيو – سياسية لهذه “الحرب” قد تعيد رسم الخريطة السياسية للمنطقة، خصوصاً مع إصرار الصين على العودة الى مشاريعها في ايران، ودخولها بقوة على خطّ إعادة إعمار سوريا والعراق، وصولاً الى اهتمامها المستجدّ بالدخول الى السوق اللبناني من بوابة الكهرباء والقطار، كما توسيع دائرة استثماراتها في السوق المصرية.