كيف تطوّرت الحركة الصهيونية بعد الحرب العالمية الأولى؟

المكسب الأكبر بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فالقوتان التى راهنت عليهما الحركة (بريطانيا وفرنسا) انتصرتا فى الحرب على الإمبراطورية العثمانية وهو ما مهد الطريق نحو إنشاء الدولة الصهيونية المنشودة فى فلسطين التاريخية، خاصة أن البريطانيين قد قدموا وعد بلفور الشهير بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين عام ١٩١٧ من ناحية، كما أنه ومن ناحية أخرى فقد حصل الصهاينة على مكسب جديد متمثل فى قرار القوى المنتصرة بانتداب بريطانيا على فلسطين ومن ثم أصبح الطريق ممهدا نحو الإنشاء الفعلى للدولة اليهودية.

كانت المؤتمرات الصهيونية قد توقفت بعد المؤتمر الحادى عشر والذى عقد فى فيينا عام ١٩١٣ بسبب ظروف الحرب، ولكن بعد انتهاء الحرب تم استئناف المؤتمرات مرة أخرى حيث عقد المؤتمر الصهيونى الثانى عشر فى تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٢١، والذى أقر تعيين حاييم وايزمان كرئيس للمنظمة الصهيونية العالمية، كما قام بتعيين ناحوم سوكولوف كرئيس للمجلس التنفيذى للمنظمة. رحب المؤتمر الثانى عشر بقرار الانتداب البريطانى، كما اعتمد إنشاء منظمة صهيونية جديدة كانت قد تم إنشاؤها فى لندن فى العام السابق (١٩٢٠) وعرفت باسم «كيرين حيسود» أو «الصندوق التأسيسى» بالعربية، وهى المنظمة التى تمكنت على مدى سنوات السعى -لإنشاء الدولة العبرية- نحو الحصول على تدفقات مالية هائلة لتمويل إنشاء المستوطنات وتوطين المزيد من اليهود فى فلسطين.
من الملفت للنظر أن المؤتمر الثانى عشر كان أول المؤتمرات الصهيونية الذى يلتفت للموقف العربى تجاه الدولة العبرية، فقبل انعقاد المؤتمر كانت انتفاضتان عربيتان قد اندلعتا فى القدس (١٩٢٠)، وفى حيفا (١٩٢١) للتنديد بالهجرة اليهودية ما دعا المؤتمر لتكليف المجلس التنفيذى للمنظمة الصهيونية بالبحث عن إقامة علاقات ودية مع العرب وشرح الموقف الصهيونى لهم!

***

بعد هذا المؤتمر عقدت عشرة مؤتمرات صهيونية أخرى، منها تسعة قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية ومؤتمر واحد بعد انتهاء الحرب العالمية وقبل قيام الدولة الإسرائيلية. ولعل أبرز التطورات من خلال مراجعة مناقشات هذه المؤتمرات هى ما يلي:
أولًا؛ إنشاء المنظمة اليهودية والتى كانت تتولى بالنيابة عن الحركة الصهيونية التنسيق بين كل اليهود فى العالم ورفع وعيهم بالأفكار الصهيونية ومأسسة فكرة الدولة اليهودية من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كانت بمثابة الفرع التنفيذى للمنظمة الصهيونية العالمية فى فلسطين، بمعنى تحويل قرارات المنظمة والمؤتمرات الصهيونية إلى سياسات عملية تطبق على الأرض فى فلسطين التاريخية، كما تولت المنظمة اليهودية أيضًا مهمة التنسيق والتفاوض مع سلطة الانتداب البريطانى حول تنظيم الهجرات اليهودية إلى فلسطين.

كانت أكبر الخلافات التى ظهرت فى تلك الفترة (١٩٢٣-١٩٤٦)، هو ظهور حركة الصهيونية التصحيحية والتى أسسها أحد اليهود الأوكرانيين ويدعى زئيف جابوتينسكى، وقد أسس جابوتينسكى الحركة التصحيحية داخل المنظمة الصهيونية لاعتراضه على سياسات حاييم وايزمان وديفيد بن جوريون لأنها من وجهة نظره سياسات مهادنة

ثانيًا؛ ظهور انقسام كبير داخل المنظمة الصهيونية حول إمكانية ضم اليهود من غير الصهاينة إلى العمل الصهيونى ومن ثم المنظمة اليهودية، وقد وصل الخلاف إلى حد التهديد باستقالات جماعية ضد زعماء الحركة، وقد انحاز وايزمان لمسألة ضم اليهود عمومًا – بغض النظر عن مدى انتمائهم للحركة والأيديولوجية الصهيونية – إلى أى عمل من شأنه المساعدة على إنشاء الدولة العبرية، وكان يرى فى ذلك نوعًا من البرجماتية التى لم تقنع على ما يبدو الكثير من الصهاينة الذين كانوا يرون أن إنشاء الدولة هو حق قاصر على المؤمنين بالصهيونية فقط!
ثالثاً؛ لكن كانت أكبر الخلافات التى ظهرت فى تلك الفترة (١٩٢٣-١٩٤٦)، هو ظهور حركة الصهيونية التصحيحية والتى أسسها أحد اليهود الأوكرانيين ويدعى زئيف جابوتينسكى، وقد أسس جابوتينسكى الحركة التصحيحية داخل المنظمة الصهيونية لاعتراضه على سياسات حاييم وايزمان وديفيد بن جوريون لأنها من وجهة نظره سياسات مهادنة! وقد كانت الحركة الصهيونية التصحيحية تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية؛

المبدأ الأول هو الاعتراض على الأسس الاشتراكية للدولة العبرية، فقد رأت الحركة التصحيحية أن إنشاء الدولة يجب أن يقوم على المبادئ الرأسمالية لا الاشتراكية ومن ثم فلم تكن الحركة التصحيحية الكثير من الاحترام للعمال المهاجرين إلى فلسطين، كما لم تعجب كثيرًا بسياسات إنشاء المستوطنات التعاونية «الكيبوتس».
المبدأ الثانى هو الإصرار على مبدأ «السياسة أولا»، وهو ما كان يعنى الخلاف مع مبدأ وايزمان، حيث كان الأخير وفريقه يرى أن إنشاء الدولة العبرية يأتى عن طريق اتخاذ إجراءات على الأرض أولًا من خلال دعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإنشاء المستوطنات، بينما كانت ترى الحركة التصحيحية أن إنشاء الدولة يأتى من خلال العمل السياسى والذى كان يعنى عدم التهاون مع البريطانيين والضغط عليهم وعلى عصبة الأمم لإنشاء الدولة ومن ثم لم تتوانَ هذه الحركة فى تنظيم حركات عنيفة وعمليات إرهابية ضد البريطانيين أنفسهم قبل العرب!

المبدأ الثالث والأخير هو عدم القبول بـ«أنصاف الحلول»، وهو ما كان يعنى الإصرار أن كل فلسطين التاريخية هى حق لليهود ومن ثم رفض إنشاء أى دولة عربية أو إعطاء حقوق للعرب فى أراضيهم!
يمكن ببساطة التعرف على آثار هذه الحركة التصحيحية حتى الآن من خلال تتبع سياسات حزب الليكود وما يتبعه من مبادئ تريد التخلص من الوجود الفلسطينى وترفض رفضًا قاطعًا إقامة دولة للشعب الفلسطينى! على أى حال انتهى بالحركة الصهيونية التصحيحية إلى الانسحاب من الحركة الصهيونية ومقاطعة المؤتمرات الصهيونية بحلول عام ١٩٣٥ بل إنشاء منظمة صهيونية موازية عرفت باسم المنظمة الصهيونية الجديدة!
رابعًا؛ مع انسحاب الصهاينة التصحيحيين من الحركة الصهيونية، هيمنت الحركة العمالية/الاشتراكية على المنظمة الصهيونية العالمية، وقد ظهر ذلك جليا فى المؤتمر التاسع عشر، والذى عقد فى مدينة لوسرن السويسرية، حيث تم انتخاب ديفيد بن جوريون القيادى الاشتراكى كرئيس للمجلس التنفيذى للحركة، ومع وايزمان تم الهيمنة بشكل تام على سياسات الحركة ولاحقًا على سياسات الدولة العبرية لعقود تالية!

إقرأ على موقع 180  "هآرتس" تُعارض.. بنبش أوراق ماضي إسرائيل وحاضرها

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الخامنئي، إيران و"القنبلة".. شعرة صغيرة!