رحيل رئيسي يُعوّم عبرة التاريخ.. النظام أولًا

كان الرئيس إبراهيم رئيس يأنس برفقة وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان في الرحلات الداخلية والخارجية. والرحلة هنا أكثر بكثير من الانتقال بين الأمكنة لأغراض محدّدة، بل هي سنوات طويلة في قطار مدرسة فكرية واحدة، جعلت من الرجلين المتقاربين في العمر والمسار في طبقات النظام المختلفة، متشابهين في أسلوب الإدارة والتعامل مع الأزمات وحل المشكلات.

هذا الأنس وذاك التقارب وحدّا بين قدريهما فصارا قدرهما. تشاركا مروحية النهاية برغم أنف البروتوكول، ثمّ جنازة واحدة. ربما لو بقي عبد اللهيان في المروحية التي كان فيها، ولم يطلب من وزير الطرق مهرداد بذرباش أخذ مكانه إلى جانب رئيس الجمهورية لنقاش موضوع مهم، لكانت صورة المشهد اليوم مختلفة وأقلّ قسوة. لكنه القدر الذي يؤمن به الراحلان كثيرا بصيغته الدينية.

سياسيًا، لا يمثل هذا القدر سوى رأس جبل الملمّات المتراكمة على امتداد سنوات إيران العجاف. لعلها لحظة للتأمل هنا في طهران، وفي القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، الذي لا ينفك الإعلام يناقش مسألة خلافته. في الحاكم الذي يودّع خليفة مفترضا بعد آخر. رئيسي الذي كان بحسب تقارير صحفية أحد المرشحين الأكثر حظا، وقبله محمود الهاشمي الشهرودي في عام 2018، وقبلهما هاشمي رفسنجاني في عام 2017، والذي كان يكبر خامنئي عمرا.

ودّعت إيران الكثير من وجوه رعيلها الأول، لكن البارز أنها وبرغم  خسارة قادة عسكريين وعلماء نوويين بارزين، ورجال دولة ودين، وأخيرا رئيس جمهورية ووزير خارجية، لا تلبث بعد كل صلاة جنازة أن تنفض عنها غبار الأحزان لتعود إلى توازنها وتمضي بمن بقي. ولعل أحداث الساعات التي تلت الكشف عن مصير الرئيس ابراهيم رئيسي ورفاقه خير دليل على إصرار النظام على ملء الفراغ حتى قبل أن يبدأ. كذلك كانت طمأنة القائد الأعلى خامنئي للمواطنين، خلال البحث عن طوافة الرئيس، بألا يقلقوا وأن ما من إضطراب سيصيب سير الأعمال في البلاد.

اختبرت الدولة في إيران التحولات في مساحات الفراغ والقلق على مدى القرون الماضية، وهي كما تقول التجربة مدمنة على التاريخ بشكل يدفعها لقياس كل حدث آني على حدث سابق يشبهه قليلا أو كثيرا. وبرغم أن القياس باطل شرعا في فقه الشيعة الجعفريين، لكن العقل السياسي هنا يتعبد به كأداة وقاية من مصير يعيد إلى الأذهان سقوط سلالة القاجار في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، خلال فراغ التحوّل من حكم محمد علي شاه قاجار إلى ابنه أحمد شاه قاجار، وانهيار الدولة الصفوية في مرحلة انتقالية بين سقوط أصفهان بيد الأفغان في عهد الشاه سلطان حسين، وانتفاضة ابنه طهماسب اللاحقة، واهتزازات السلاسة الأفشارية المتعددة بعد مقتل نادر شاه، والحروب الأهلية التي تلت وفاة شاه السلالة الزندية كريم خان زند.

لم يكن خامنئي يحمل صفات الخميني ولم يكن يتمتع بكاريزما ثورية، ولا كان يحمل حيثية فقهية أو يمثّل حالة فكرية خاصة، إلا أن النظام سمح له بأن يصنع تجربته بالتحالف بينه وبين مؤسسات الدولة الأخرى. وبين انتخاب خامنئي قائدا، ولحظة سقوط الطوافة في آذربيجان الشرقية وما تلاها، مسار واضح أرسي في إيران

في العقل الباطن للدولة والحاكم في إيران اليوم – وهو أساسي جدًا في إدارة الحكم – ما سبق ليس مجرد “قصص الأولين”، إنما جذر مشكلة تاريخية ربطت دوما النظام بالحاكم الفرد وبفراغ ما بعد رحيله. جاء آية الله روح الله الخميني عام 1979 بثورة طوعت الفراغ بدستور شديد التعقيد، ومؤسسات حكم لا تمنع وجود الحاكم القوي، لكنها تعيق استئثاره الكامل بالسلطة، وتفصل بين حياته وموته من جهة وبين وجود النظام كأولوية من جهة ثانية. أولى اختبارات تلك التوليفة، التي لا علاقة بينها وبين الديموقراطية الغربية، كان عزل أبي الحسن بني صدر، ومن ثم انتخاب محمد علي رجائي، ومن ثم اغتيال رجائي ورئيس وزرائه محمد باهنر، وفي أقل من خمسين يوما بعد ذلك تم انتخاب علي خامنئي رئيسا للجمهورية. كان ذلك أول اختبار للنظام، وأول نقطة تحول في مسار الثورة حيث ستظهر نتائجها بعد يوم من وفاة الخميني في انتخاب خامنئي وليًّا فقيهًا مطلق الصلاحيات.

لم يكن خامنئي يحمل صفات الخميني ولم يكن يتمتع بكاريزما ثورية، ولا كان يحمل حيثية فقهية أو يمثّل حالة فكرية خاصة، إلا أن النظام سمح له بأن يصنع تجربته بالتحالف بينه وبين مؤسسات الدولة الأخرى. وبين انتخاب خامنئي قائدا، ولحظة سقوط الطوافة في آذربيجان الشرقية وما تلاها، مسار واضح أرسي في إيران. سكة ثابتة للتغير عنوانها الصلب: الدولة والنظام أقوى من الشخص، ولو كان هذا الشخص هو مطلق الثورة، آية الله الخميني. حتى أنها بتعبير الخميني نفسه أهم من “إمام العصر والزمان”.

في هذا استشراف لما قد يأتي لاحقا من تغيير، حال خلو منصب القائد الأعلى. هنا تزدحم السيناريوهات المتخيلة، منها  الكلام عن خلافة ابنه الثاني مجتبى، ومنها أسماء مختلفة أخرى رأسمالها عمامة ودرجة اجتهاد، من دون الأخذ بعين الاعتبار محددات التحول في زمن ما بعد الثورة الإسلامية ومشروعية استمرار النظام بناء على مقياس الكيان الإيراني المتحول عبر الزمن. كما يبرز طرح تشكيل مجلس قيادة ليتولى منصب القائد في حال شغوره، لكن وإن كان حاضراً في دستور الجمهورية الإسلامية، فإنه قد يحمل في طياته بداية النهاية لدولة الولي الفقيه وانطلاق عجلة التغيير من داخل النظام. لماذا؟ لأنه حالة رمادية برزخية تتحسس منها الدولة، برغم كونها عاشقة للرمادي خارج حدودها وفي علاقاتها مع الآخرين. فالرمادي انتج عبر التاريخ انقلابات وثورات وهذا تحديدا ما لا يريده نظام الجمهورية الإسلامية.

إقرأ على موقع 180  هل تُغيّر "ضربة القنصلية" المسار النووي في الشرق الأوسط؟

ما يريده النظام حقا لا يختلف عما أرادته الأنظمة التي تعاقبت على حكم إيران. دولة قوية وتأثير عابر للحدود، وقدرة على التغيير بما يناسب مصالحها. لكن من سبقوا الخميني ربطوا النظام بالحاكم الفرد، فازدهرت الدولة في ظل الحاكم القوي وانهارت متى ما جاء آخر ضعيف، رأينا ذلك في زمن عباس شاه الكبير الذي حكم بين نهاية القرن السادس عشر وعشرينيات القرن السابع عشر، كما في حالة نادر شاه أفشار بعده بمئة عام. هنا كانت هندسة النظام تهتم لمقاسات من بيده الصولجان، ولذلك لم يلبث النظام كثيرا حتى انهار.

في حالة الجمهورية الإسلامية، تجربة مختلفة، بعيدا عن الديموقراطية والدكتاتورية، وبعيدا عن الحاكم القوي والحاكم الضعيف، فإن من يحكم هو النظام، والنظام هنا قاس على من يتلاعب بإعدادته ويعرضه لخطر الزوال، كما أنه لا يرحم الالتفاف عليه لاستعادة محورية الفرد في صناعة القرار. بل ومهما ضعفت المؤسسات يبقى فيها رمق لمقاومة العودة الى الوراء، إلى تاريخ الانهيارات، لأن في ذلك تهديد لأصل وجودها في إيران وما بعد إيران.

(*) بالتزامن مع “جاده إيران

Print Friendly, PDF & Email
علي هاشم

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  رئيسة تايوان في واشنطن.. كيف يرد الصينيون؟