على أن واحدة من أصعب التحديات التي تواجهها البلاد هي خشية المثقفين من الآراء الشعبوية، وهجوم “الفيسبوك”، إلى حدّ أن نخب السياسة والثقافة باتت مترددة في مواجهتها للواقع، واقتراح الحلول الصعبة والضرورية. فما المَخرجُ من هذا المأزق؟
قد نجد الجواب عند ابن حزم الأندلسي إذ يقول: “من تصدّر لخدمة العامة، فلا بد أن يتصدق ببعض من عرضه على الناس، لأنه لا محالة مشتــوم، حتى وإن واصل الليل بالنهــــار”!
لقد نالت مفردة “مصالحة” نصيبها من التشكيك، والتأويل، ومن كل الأطراف، وستنال المزيد. هذا لا يعني حذفها من القاموس السوري حتماً، لكن نجاح المصالحة يتطلب الإجابة عن أسئلة كثيرة: هل المصالحة المطلوبة هي بين المجتمعات المتخاصمة؟ أم بين المجتمع والدولة؟ أم بين المعارضة والسلطة؟ كيف تردُّ المصالحة المظالم؟ كيف نتصالح وما زال عشرات الآلاف مفقودين، ومعتقلين ومغيبين قسراً؟ كيف نعالج قضية اللاجئين؟ كيف ستعالج المصالحة حقيقة أن البلاد مقسّمة وأن هناك قوى أمر واقع تقتسم الجغرافيا وتدير مؤسسات لا تتشابه في ما بينها، وتطبق قوانين متباينة؟ كيف ستتعامل المصالحة مع عشرات آلاف المقاتلين المنضوين تحت راية هذا الطرف أو ذاك؟ وكيف ستتعامل مع استرداد الناس لأملاكها؟
الحوار قيمة عليا، ولا عودة لسوريا موحدة من دونه، ولا عودة لمجتمع واحد من دون حوار بين الجميع. ومن دون سوريا موحدة لا أحد سيبقى قادراً على الاستمرار. نعم، لقد استنفدنا كل الأوقات المستقطعة في لعبة الانتظار. لا عودة لمجتمع سوري واحد من دون حوار بين جميع المجتمعات وفي جميع الجغرافيات
الإجابة عن هذه الأسئلة ليست شرطاً مسبقاً لحوار مطلوب، لكن بدون تلك الإجابة سيتبدى كأن المصالحة تحدث على طريقة تبويس الشوارب، و”يا دار ما دخلك شر”! وهذا ليس من شأنه سوى زرع بذرة النزاع من جديد.
من هنا تأتي أهمية الحوار للوصول إلى إجابات ممكنة، وبناء تصورات مشتركة لخطوات واقعية تبغي الوصول إلى حلول تملك مقبولية واسعة. يتطلب بناء تلك المقبولية كسر كثير من التصورات المسبقة، والأفكار النمطية التي لم تصل إلا إلى حافة الهاوية، ونكاد لا نملك أي حبل نجاة بعد الآن. ولكن كسر الأفكار النمطية لا يعني التحليق في عالم المُثل، فهناك مُحدّدات وأطرٌ لا نملك – نحن السوريين والسوريات – ترفَ تجاوزها. والحوار الذي لا يأخذ بالاعتبار معنى وجوهر القرار 2254 بغموضه البناء وإمكانات تأويله المتعددة لن يستطيع أن يجتاز عتبة الحل. هذا يعني أن الإجابة عن الأسئلة أعلاه يجب أن تُحدّد بوصفها أهدافاً، وليس باعتبارها شروطاً مسبقة، وإلا صار الحوار نوعاً من العبث!
عليه، ما نراه حواراً وطنياً قد يملك فرصة الوصول إلى مصالحة كبرى، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المنطلقات الآتية:
أولاً؛ إن أي مصالحة تستوجب الكشف عن مصير المعتقلين والمخطوفين، وإلا فإن آلام ذويهم وعذاباتهم ستجعل من أي “اتفاق” محاولة فاشلة للقفز على آلام ستعود هي ذاتها لإشعال نار الحرب، ولو بعد حين. نعم هذه إحدى أكثر تحديات المصالحة صعوبة. ولكن بدون حوار حول آليات عملية للبدء في هذا المسار الذي قد يبدأ من خلال خطوات أولية لبناء الثقة ولكنه قد يمتد لسنوات، فإن هذه القضية ستبقى عالقة في أيدي أطراف تستخدمها لتسجيل النقاط السياسية بدلاً من العمل الدؤوب لإيجاد حلول عملية.
ثانياً؛ لا يمكن لأي مصالحة/حوار أن تكون حدثاً في زمن محدد، بل هي عملية طويلة ومضنية، تبدأ بالاعتراف بضرورة حدوثها، على الأقل لحماية البلاد من التقسيم، وتتشعب في مسارات رسمية كاللجنة الدستورية، ومسارات غير رسمية، وطنية ومحلية.
ثالثاً؛ لن ينجح أي حوار لا يكون سورياً – سورياً، حقيقةً وليس وفق شعارات لا تُسمن ولا تُغني من جوع. نعم يجب أن يكون الحوار بضمانات إقليمية ودولية، لكن يخوضه أبناء البلد. لن تنجح المساعي الحميدة للمبعوث الدولي الخاص، ولا آليات الأمم المتحدة ما لم تُقرّر الأطراف السورية أن تبدأ بالحوار لإيجاد حل، بدلاً من سعي كل طرف إلى إثبات أن الطرف الأخر هو الذي يعيق الحل، والتخلص بذلك من مسؤولية التعامل بجدية مع مسارات الحوار.
رابعاً؛ يجب أن تشمل أي مصالحة جميع القوى القائمة دون استثناء، فهي إما قوى تسيطر على الأرض، وتقود عشرات الآلاف من المقاتلين، أو تسيطر على كم كبير من الموارد، أو تحكم شرائح واسعة من السوريين. حوار لا يشمل كل القوى الموجودة على الأرض، ولا يشمل كل القوى السياسية المعنية، وقوى المجتمع المدني، معناه تقوية طرف على طرف، وتغليب مجتمع على آخر، وتسليماً بقوة دون أخرى. أو بصياغة أخرى أشد وضوحاً: إقصاء ملايين السوريين، وتهميشهم، وإعادة تغذية جذور النزاع. يعني هذا أن تنتهي عملية الحوار بشكل من أشكال تشارك السلطة بين بعض أو جميع القوى: حكومة، معارضة سياسية، معارضة مسلحة، إدارة ذاتية، قوى مسلحة في درعا والسويداء إلخ..، وقد نُعدّد أطرافاً أخرى، في المستقبل القريب، ما لم ينطلق الحوار اليوم!
لا قيامة لسوريا إن واصلنا شيطنة الحوار، وعلى من يرفض الحوار أن يتحمل وزرَ تقسيم البلاد يوماً ما، وما يستتبع ذلك من تحول جميع السوريين إلى خدم لمصالح الغير
لكن لماذا يبدو الحديث عن المصالحة كما لو أنه مفاجأة؟ ما هو جوهر القرار 2254؟
لنقرأ أولاً ما يقوله هذا القرار حرفياً:
“التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ 30 حزيران/يونيو 2012، الذي أيّده القرار 2118 (2013)، وذلك بسبل منها إنشاء جسم حكم انتقالي جامع يخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، ويعتمد في تشكيله على الموافقة المتبادلة، مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية”.
العبارة المفتاحية هنا هي “التوافق المتبادل”، التي تعني أن عملية الانتقال تشترط توافقاً، والتوافق يشترط تنازلات، وهذا يتطلب حواراً جاداً بين السوريين والسوريات. لن يأتي فارس على فرس أبيض ليحل لنا خلافاتنا! ومن ثم يجب أن نسأل: أليس التوافق المتبادل شكلاً من أشكال المصالحة؟
أول شروط تحقيق هذا التوافق المتبادل، أو المصالحة، أو الحوار، أو العملية السياسية، أو سمّها ما شئت، هو التوقف عن شيطنة الحوار والمصالحة، والتوافق المتبادل. الحوار قيمة عليا، ولا عودة لسوريا موحدة من دونه، ولا عودة لمجتمع واحد من دون حوار بين الجميع. ومن دون سوريا موحدة لا أحد سيبقى قادراً على الاستمرار. نعم، لقد استنفدنا كل الأوقات المستقطعة في لعبة الانتظار. لا عودة لمجتمع سوري واحد من دون حوار بين جميع المجتمعات وفي جميع الجغرافيات! لا قيامة لسوريا إن واصلنا شيطنة الحوار، وعلى من يرفض الحوار أن يتحمل وزرَ تقسيم البلاد يوماً ما، وما يستتبع ذلك من تحول جميع السوريين إلى خدم لمصالح الغير.