قبل الخوض في فرضيات الرد الإيراني، لا بد من الإشارة إلى أن ما أقدمت عليه “إسرائيل” سبقتها إليه الولايات المتحدة خلال حربها على صربيا في أواسط تسعينيات القرن الماضي، عندما قصفت طائراتها السفارة الصينية في بلغراد، لتعود وتعتذر قائلة إن الأمر حصل بطريق الخطأ؛ كما سبقتها إليه أيضاً عندما اغتالت الجنرال قاسم سليماني على أرض دولة مستقلة وذات سيادة، (قرب مطار بغداد في العام 2020). الفارق الوحيد بين اغتيال سليماني والغارة على القنصلية الإيرانية أن الإستهداف الأخير لم يقتصر على فرد بعينه أو أكثر (سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما) بل على مقر دبلوماسي، وفي ذلك خرق فاضح للاتفاقات الدولية التي تنظم عمل البعثات الدبلوماسية.
أما احتمالات الرد الإيراني، فإنها تضعنا أمام فرضيات عدة تبدأ من عند تصعيد ضربات محور المقاومة ضد أهداف “إسرائيلية” حيوية بدءاً من اليمن مروراً بالعراق وصولاً إلى جنوب لبنان، ولا تنتهي بإطلاق زخة صواريخ إيرانية بعيدة المدى من قلب الأراضي الإيرانية ضد أهداف “إسرائيلية” باعتبار أن القنصلية في دمشق تقع على أرض تخضع للسيادة الإيرانية والاعتداء عليها هو اعتداء مباشر على إيران.
هنا، ثمة استدراك أن حسابات القيادة الإيرانية تختلف عن حسابات المحللين السياسيين. دهاة طهران يُدركون جيداً أن القيادة “الإسرائيلية” تعمل جاهدة إن لم نقل تستجدي توسيع نطاق الحرب الجارية على أرض فلسطين عبر استدراج إيران والعديد من حلفائها إلى المعركة، وفرض أمر واقع يُقحم أمريكا في مواجهة مباشرة مع إيران.
وإذا أردنا أن نُسجل النقاط التي حقّقتها “إسرائيل” من خلال خرقها لـ”قواعد الإشتباك” أكثر من مرة منذ اندلاع “طوفان الأقصى”، يمكن القول إنها خرجت تماماً عن أي قاعدة كانت سائدة قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، فقد اغتالت قيادين مقاومين، لبنانيين وفلسطينيين وإيرانيين، وقصفت أهدافاً مدنية في لبنان من بقاعه إلى جنوبه، وكلها استهدافات تستوجب الرد، كما كان يؤكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
العقل الإيراني يعمل بهدوء وصبر (الآجل خيرٌ من العاجل) ويصعب التكهن بما سيحيكه صانع السجاد. الأكيد أن القطبة ستكون محبوكة جيداً وبخيط يأخذ بالاعتبار أن هيبة إيران في المنطقة باتت على المحك، لكن من دون الوقوع في محظور الاستدراج إلى حرب شاملة
في هذا السياق، بدأ الرد الإيراني على استهداف القنصلية بهجوم دبلوماسي سريع تمثل في استدعاء القائم بالأعمال السويسري في طهران الذي يرعى المصالح الأمريكية وتسليمه رسالة لم يكشف عن مضمونها لإيصالها الى الإدارة الأمريكية، والخطوة الثانية هي التقدم بشكوى عاجلة لمجلس الأمن الدولي ضد “إسرائيل”، وتصريح شديد اللهجة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عكس موقف القيادة الإيرانية في ادانته للعدوان والتعهد بالرد عليه. أما الرد الفعلي، فيُفترض أن يتخذ منحيين استراتيجي وتكتيكي:
– في المنحى الاستراتيجي لا يغيب عن تفكير القادة الإيرانيين أن “إسرائيل” تحظى بدعم أمريكي كامل وغير محدود بالرغم من كل ما يحكى عن اختلافات في وجهات النظر بين البلدين حيال الحرب على غزة ويعرفون أيضاً أن “إسرائيل” تمتلك أسلحة نووية، وفي ظل هذه القيادة اليمينية المتطرفة فإنها لن تتورع عن استخدامها ضد إيران إذا ما تلقت ضربة إيرانية موجعة، وقد لمح وزير الثقافة “الإسرائيلي” لهذا الموضوع في أحد تصريحاته خلال الأيام الأولى للحرب حيث رأى انه يجب على جيشه أن يستخدم السلاح النووي للتخلص من غزة. لذلك فإن المنطق يُحتّم على إيران من الناحية الاستراتيجية أن تكون جاهزة لمواجهة نووية معينة مع “إسرائيل”، وأن تعمل على تسريع برنامجها النووي وأن تتجاوز فتوى مرشدها الخامنئي بتحريم السلاح النووي بفتوى مضادة، وهذا سيكون بمثابة رد كبير جداً ليس فقط على “إسرائيل”، بل أيضاً على الولايات المتحدة التي قدّمت لها كل أشكال الدعم العسكري واللوجستي والتسليحي بلا حساب منذ البدء بهجومها على غزة..
– في المنحى التكتيكي الآني، فإن خيار استخدام المقاومة العراقية وحركة أنصار الله في اليمن صواريخ ذات دقة عالية لاستهداف “مراكز حيوية” “إسرائيلية” هو خيار مثالي يحفظ ماء الوجه لإيران من دون أن يحقق لـ”إسرائيل” هدفها بتوسيع دائرة الحرب، وهنا فان تعريف “المراكز الحيوية” يحمل في طياته مروحة واسعة من الأهداف. أما إذا أردنا التفكير من خارج الصندوق، فإن مخيلة بعض المحللين قد تذهب إلى التساؤل ماذا ستكون ردة الفعل “الإسرائيلية” والأمريكية والدولية لو قرّرت إيران الرد عبر حلفائها العراقيين (على سبيل المثال لا الحصر) بقصف أقرب سفارة “إسرائيلية” في إحدى عواصم “دول الجوار” مثلاً؟ أو تفجير بعثة دبلوماسية “إسرائيلية” في أي مكان في العالم من دون أن تتبنى أية جهة إيرانية هذا التفجير، لا سيما أن “إسرائيل” لم تتبنَ رسمياً الغارة على القنصلية الإيرانية في دمشق!
هذه الاحتمالات يُمكن أن تكون واردة جزئياً أو كلياً في حسابات طهران، غير أن العقل الإيراني يعمل بهدوء وصبر (الآجل خيرٌ من العاجل) ويصعب التكهن بما سيحيكه صانع السجاد. الأكيد أن القطبة ستكون محبوكة جيداً وبخيط يأخذ بالاعتبار أن هيبة إيران في المنطقة باتت على المحك، لكن من دون الوقوع في محظور الاستدراج إلى حرب شاملة.