“وول ستريت جورنال”: إيران قوة دولية برغم أميركا 

إيران أصبحت من أكبر عناصر التهديد لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط. كما أصبحت فاعلاً دولياً مؤثراً، برغم العقوبات الأميركية والغربية الطويلة الأمد. وهي اليوم "أكثر قوة ونفوذاً وخطورة وتهديداً مما كانت عليه قبل 45 عاماً"، بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية(*).

أحبطت إيران، بقيادة المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، عقوداً من الضغوط الأميركية، واستطاعت- إلى حد كبير- أن تخرج من سنوات من العزلة التي فُرضت عليها، وذلك بفضل تحالفاتها مع روسيا والصين، وأيضاً بفضل استغنائها عن شرط الاندماج والتكامل مع الغرب. إذ أنها تضع جُلَّ تركيزها على تقوية الشراكة مع قوتين كبيرتين ورئيسيتين بقدر ما تفعل في تكثيف المواجهة مع واشنطن. صحيح أن الاقتصاد الإيراني لايزال يعاني من العقوبات الأميركية والغربية، لكن مبيعات النفط إلى الصين وصفقات الأسلحة مع روسيا وفرت لطهران شرايين حياة مالية ودبلوماسية.

كذلك استغلت إيران؛ وبشكل فعَّال؛ عقوداً من الأخطاء الأميركية في الشرق الأوسط وتقلبات سياسة البيت الأبيض الكبيرة-بين إدارة وأخرى- تجاه المنطقة. وصارت تشكل تهديداً أكبر لحلفاء ومصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في عام 1979.

فبالإضافة إلى الدور الذي تلعبه في كل من العراق ولبنان وسوريا واليمن، فإن بصمة إيران العسكرية باتت تصل إلى نطاق أوسع وأكثر عمقاً من أي وقت مضى. فعبر قوى محور المقاومة، الذي تقوده وتدعمه، طالت صواريخها منشآت النفط السعودية، وجماعة أنصار الله (الحوثيون) شلَّت حركة الشحن التجاري العالمية في البحر الأحمر، وفصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة “حماس” شنَّت الهجمات الأكثر تدميراً لإسرائيل منذ نشأتها (عملية طوفان الأقصى) في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وفي نيسان/أبريل شنَّت إيران نفسها أول هجوم عسكري مباشر من أراضيها على إسرائيل (…).

نفوذ بتكلفة كبيرة 

وبغض النظر عمن سيفوز في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة يوم الجمعة المقبل (5 يوليو/تموز)، ومن سيشغل البيت الأبيض بعد الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، فإن القضايا الملحة التي تقلق الغرب؛ أميركا على وجه الخصوص؛ ستبقى كما هي، وأبرزها: عواقب صفقات الطائرات الحربية المسيَّرة التي تدعم بها إيران روسيا في الحرب الأوكرانية، وتعاظم نفوذ قوى محور المقاومة، وزيادة تطوير البرنامج النووي الإيراني.

صحيح أن من سيفوز في الرئاسة الإيرانية سوف يرث الانقسام الداخلي والاقتصاد الذي تعصف به العقوبات، لكنه سيرث أيضا قوة ونفوذاً دوليين. “ففي كثير من النواحي، أصبحت طهران أكثر قوة ونفوذاً وخطورة وتهديداً مما كانت عليه قبل 45 عاماً”، بحسب سوزان مالوني، مديرة برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينغز، ومستشارة للإدارات الأميركية (الديموقراطية والجمهورية) بشأن السياسة تجاه إيران.

وصحيح أيضاً أن تكلفة خيارات سياسة طهران الخارجية كانت كبيرة على الداخل الإيراني، وعلى حساب اقتصادها الذي لايزال متأخراً عن جاراتها في دول الخليج، مثل السعودية والإمارات (الأزمات الاقتصادية خسرت النظام الكثير من الدعم الشعبي الذي أوصله إلى السلطة قبل عقود)، إلا أن قوة إيران المتنامية تعكس فشلاً لدى للغرب.

فمنذ عهد الرئيس جيمي كارتر، مازالت مسألة إيجاد استراتيجية فعَّالة لاحتواء إيران بمثابة “الحوت الأبيض الضخم” بالنسبة لصُنَّاع السياسة الخارجية في الغرب. فلا العقوبات، ولا الدبلوماسية كانت ناجعة لعزل إيران. بل على العكس. لقد نجحت طهران في توطيد أواصر الشراكة والتعاون مع موسكو وبكين، مما زاد من تعقيد الدبلوماسية معها (…).

بالرغم من عقود من الضغوط والعقوبات الأميركية والغربية، أصبحت طهران تشكل تهديداً أكبر للمصالح الأميركية بفضل علاقاتها مع روسيا والصين

لقد كلَّفت العقوبات الغربية إيران مليارات الدولارات، “ولكن ما هو الهدف؟ لقد أصبحت اليوم أكثر نفوذاً في المنطقة من أي وقت مضى… الصين استحوذت على الاقتصاد الإيراني، وروسيا أصبحت أكثر قرباً”، بحسب سيد حسين موساويان، الباحث في جامعة “برينستون” والمسؤول السابق في الخارجية الإيرانية.

أخطاء أميركا والغرب

لأكثر من عقدين من الزمن، اتبع الغرب سياسة متأرجحة مع إيران. وغيّر الرؤساء الأميركيون، مراراً وتكراراً، سياساتهم -من الدبلوماسية إلى القوة، ومن التواصل إلى محاولة العزلة.

وكمثال على ذلك: أثناء غزوها لأفغانستان، في عام 2001، سعت أميركا للحصول على مساعدة من إيران. وبالفعل، تلقت الكثير من الدعم العسكري والإستخباراتي مما ساعدها كثيراً في الإطاحة بنظام حركة “طالبان”. لكن بعد أشهر قليلة فقط، صنَّف الرئيس جورج بوش الإبن إيران على أنها جزء من “محور الشر”، إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، الأمر الذي اعتبره الإيرانيون بمثابة إهانة وتهديد مباشر.

في الوقت نفسه، اتبعت إيران، وعلى مدى عقود، إستراتيجية متسقة طويلة الأجل تسميها “الدفاع الأمامي” لردع هجمات الأعداء، كما عملت على بناء شبكة من الميليشيات الموالية. مهَّدت لتأسيس “محور المقاومة” فيما بعد.

وكمثال على كيف ساهمت السياسة الأميركية، في بعض الأحيان، في تعزيز قوة إيران- ولو عن غير قصد- يمكن القول إن غزو العراق، في عام 2003 والإطاحة بالرئيس صدام حسين، ساعد إيران في التخلص من عدوٍ لدود على حدودها. بعد ذلك، كان الفشل الأميركي في تحقيق الاستقرار في عراق ما بعد صدام فرصة ذهبية لطهران لكي تعزز نفوذها في البلاد والمنطقة.

غزو العراق تسبب في تراجع حظوظ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط (…) بعد أن كانت قد حققت قوة هائلة عقب غزوها أفغانستان والإطاحة بنظام “طالبان”، في عام 2001، ما دفع طهران (إلى حد كبير) لوقف عملها السرّي  في بناء أسلحة ذرية، وانخراطها في مفاوضات دولية بخصوص برنامجها النووي استمرت 20 عاماً، وفقاً لمسؤولين أميركيين.

قوة إقليمية

بالطبع، لا تزال إيران بعيدة عن تحقيق هدفها المتمثل في إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، التي لاتزال تحتفظ بقواعد عسكرية وآلاف الجنود في سوريا ودول الخليج، ولديها تحالفات متينة مع إسرائيل وعدد من الدول العربية. كما أنها (الولايات المتحدة) لاتزال هي “الوسيط الأقوى والأبرز” في الشرق الأوسط. لكن إيران أيضاً أصبح لديها حليفان من “الوزن الثقيل”- روسيا والصين- لديهما كذلك طموحات في صدّ النفوذ الأميركي في جميع أنحاء العالم.

إقرأ على موقع 180  شيرين ومحمد الدرة.. "سيرة عين"!

لقد نجحت إيران في أن تصبح قوة إقليمية من دون أن تضطر لتخطي “الخطوط الحمراء” التي يمكن أن تستدرج عملاً عسكرياً أميركياً مباشراً ضدها. وكان هذا الاتساق ممكناً لأن المسائل المتعلقة بالأمن القومي؛ بما في ذلك البرنامج النووي والاستراتيجية العسكرية؛ لا يحدّدها رئيس إيران، بل هيئات غير منتخبة، وفي المقام الأول مكتب المرشد الأعلى و”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الذي نمت قوته بشكل متسارع.

ويتجلى تخطيط طهران الطويل المدى أيضاً في جهودها المحلية للدفاع عن حكم الملالي (رجال الدين). فعلى مدى السنوات الخمس الماضية، قادت وحدة سرّية تابعة للحرس الثوري، تُعرف باسم “مقر باقية الله”، “جهود النظام للتصدي للعلمانية وما يعتبره النظام نفوذاً غربياً مدمراً”، وفقاً لتقرير جديد صادر عن باحثين في منظمة “متحدون ضد إيران النووية”، وهي مجموعة مناصرة مقرها الولايات المتحدة (…).

وبالرغم من أن السياسة الداخلية ليست متجانسة لدى جميع فئات الشعب الإيراني، والمجتمع منقسم بين الإصلاحيين المعتدلين الذين يفضلون الانفتاح على الغرب والتعامل معه، وبين المحافظين المتشددين الذين يعتقدون أن إيران في وضع أفضل في الابتعاد عن الغرب والاكتفاء بتحالفاتها مع روسيا والصين. وهذا الجدل تجدد بوضوح خلال الانتخابات الرئاسية، التي سيتنافس عليها في الجولة الثانية (الجمعة) المرشح الإصلاحي مسعود بيزشكيان والمحافظ سعيد جليلي.

يقدم البرنامج النووي الإيراني صورة واضحة عن مدى تكيف طهران مع المواقف المتناقضة للإدارات الأميركية المتعاقبة ومهارتها في استغلال السياسة الأميركية المتذبذبة. فقد رأت إدارة الرئيس باراك أوباما أن احتواء برنامج إيران النووي “ضرورة” للحد من “تورط” واشنطن في الشرق الأوسط بعد أكثر من عقد من الحروب. وفي عام 2015، وقعت إيران الإتفاق النووي” مع “مجموعة 5+1″، الذي نص على فرض قيود صارمة على أنشطة إيران النووية لمدة 10 سنوات على الأقل مقابل رفع العقوبات عنها.

المؤيدون لـ”الاتفاق” اعتبروا أن ذلك يساعدهم في “تبرير” سياستهم المزدوجة تجاه إيران، والمتمثلة في الضغط والاحتواء. وأعربوا عن أملهم في أن يؤدي ذلك إلى احتواء البرنامج النووي الإيراني على المدى الطويل وتخفيف التوترات في المنطقة. لكن المعارضين رأوا أنه (الاتفاق) لا ينهي الخطر النووي الإيراني، وأن طهران ستستأنف العمل على إنتاج سلاحها النووية بعد أن تتحرر من معظم العقوبات الدولية مستغلة فترة الـ10 سنوات. كذلك انتقد البعض “الاتفاق” لعدم تناوله أنشطة إيران العسكرية في الإقليم.

في الأثناء، تعاظم نفوذ إيران في الإقليم. فالدعم الذي قدمته لحليفها الأبرز الرئيس السوري بشار الأسد ساعد الأخير على النجاة من “الربيع العربي” والحرب الأهلية، وفي الوقت نفسه أكسبها موقعاً قوياً في سوريا وممراً برياً إستراتيجياً يمتد من طهران إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط ​​في سوريا عبر العراق، تستخدمه لدعم حلفائها وتهديد إسرائيل.

الفائز في الرئاسة الإيرانية سيرث الانقسام الداخلي والاقتصاد الذي تعصف به العقوبات، لكنه سيرث أيضاً قوة ونفوذاً دوليين، إذ تتمتع طهران حالياً بنفوذ على الساحة الدولية أكبر من أي وقت منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في 1979

كذلك كان تدخلها في سوريا فرصة لتعزيز علاقاتها وشراكتها مع روسيا، التي جاءت أيضاً لدعم الأسد في عام 2015. وقد نمت هذه الشراكة أكثر مع الحرب الأوكرانية، حيث استفادت روسيا كثيراً من الطائرات الحربية المسيَّرة التي زوَّدتها بها إيران.

كان للدعم الإيراني أيضاً الفضل في أن تمكن أنصار الله الحوثيون من النجاة من حرب إقليمية (“عاصفة الحزم”) قادتها السعودية والإمارات ضدهم على مدى نحو تسع سنوات (2015-2023)، والسيطرة على العاصمة صنعاء..

حتى إسرائيل، الدولة الأكثر معارضة وقلقاً من “الخطر” الإيراني، لم تجرؤ على تنفيذ تهديداتها بمهاجمة المواقع النووية الإيرانية. ولطالما كانت الإدارة الأميركية (منذ عهد الرئيس أوباما) والحكومة الإسرائيلية وبعض دول الخليج العربية في نزاع مفتوح حول أي سياسة يجب أن تتبعها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وحيال إيران تحديداً.

وفي هذا الخصوص، قال روبرت إينهورن، وهو مسؤول كبير سابق في وزارة الخارجية الأميركية وأحد مهندسي الاتفاق النووي الإيراني في إدارة أوباما: “أعتقد أننا كنا منشغلين بشكل مفرط ببرنامج إيران النووي، ولم نهتم بالقضايا الإقليمية كما يجب”.

وأضاف إينهورن “أوباما كان على حق في إبقاء نفوذ إيران الإقليمي منفصلاً عن المفاوضات النووية والتصدي بقوة لأنشطتها الإقليمية المزعزعة بعيداً عن تلك المفاوضات. المشكلة هي أنه لم يتابع تنفيذ ذلك”.

في عام 2018، انسحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي، وفرض سياسة عقوبات “الضغط الأقصى” على إيران، والتي طالت أيضاً جميع الشركات الأجنبية التي تتعامل مع البلاد، وحالت؛ إلى حد كبير؛ دون إمكانية إحياء أي أعمال تجارية بين أوروبا وإيران. وعلى الرغم من تشديد العقوبات الاقتصادية، رفضت إيران إجبارها على الدخول في مفاوضات جديدة. وكان الرئيس جو بايدن؛ في برنامجه الانتخابي؛ قد وضع هدفاً رئيسياً لسياسته الخارجية ألا وهو “إحياء الاتفاق النووي”. لكن المحادثات المتجددة انهارت في آب/أغسطس 2022 عندما انسحبت طهران من الاتفاق. ومنذ ذلك الحين، تعمل إيران على تسريع بناء برنامجها النووي، وقد قطعت أشواطاً مهمة في هذا المجال وذهبت إلى أبعد بكثير مما كانت عليه في وقت الاتفاق النووي لعام 2015. وكل المعلومات تؤكد أنها وصلت فعلياً إلى عتبة إنتاج سلاح نووي.

– ترجمة بتصرف عن “وول ستريت جورنال“.

(*) أعد التقرير سوني إنجل راسموسن، مراسل “وول ستريت جورنال” لقضايا الأمن الأوروبي.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  بايدن لإحتواء الصين.. منعاً لصعود قوى دولية جديدة!