هل للبنان أن يقتدي بتجربة رومانيا في تنمية قطاع تكنولوجيا المعلومات؟

تعتبر فترة استقلال جمهوريات أوروبا الشرقية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق ونيلها استقلالها نموذجًا يستحق الدراسة لاستخلاص الدروس حول كيفية تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية.

خلال الفترة التي أعقبت انهيار حلف وارسو وسقوط النموذج السوفياتي، استطاعت دول أوروبا الشرقية تحقيق العديد من الأهداف التي خوّلتها في ما بعد الإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي. من بين تلك الدول التي حقّقت تجربة تنموية ناجحة كانت رومانيا. اعتمدت حكومات رومانيا المتعاقبة قبل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي عام 2007 سلسلة من السياسات الاقتصادية لتحفيز التنمية وتنشيط الاقتصاد في القطاعات الاستراتيجية. من بين تلك السياسات، سياسة استهدفت قطاع تكنولوجيا المعلومات (IT Sector) بشكل خاص، وهي محور هذه المقالة.

***

يُعتبر قطاع التكنولوجيا والمعلوماتية محوريًا في الاقتصاد الحديث، حيث تعتمد جميع القطاعات الاقتصادية تقريبًا على استخدام الحواسيب والبرامج وتحليل المعلومات لزيادة الإنتاجية والأرباح. أدركت رومانيا أن تحفيز وتوسيع هذا القطاع قد يعود بالنفع على باقي القطاعات الاقتصادية وعلى الاقتصاد الكلي بشكل عام فاستهدفت تنميته.

لاحظت حكومات رومانيا في مطلع الألفية الثانية أن الضرائب العالية على دخل العاملين في قطاع تكنولوجيا المعلومات تدفع المبرمجين والمتخصصين في علوم الحاسوب إلى العمل في قطاعات أخرى أو الهجرة للعمل في الخارج. وهذا يؤدي إلى خسارة عدد كبير من العمالة المتخصصة في هذا القطاع المحوري، ما يؤدي إلى إضعاف أداء الشركات في هذا القطاع وخفض إنتاجيتها كما يؤثر على القطاعات الأخرى بشكل سلبي بسبب التشابك القوي بين قطاع التكنولوجيا والمعلوماتية وباقي أجزاء الاقتصاد.

القطاعات الخدمية التي كان يقوم عليها اقتصاد لبنان مثل القطاعات: الطبية، التعليمية، والمصرفية تعتمد أكثر من غيرها وبشكل كبير على تكنولوجيا المعلومات. لذا فإن تطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات يمكن أن يؤدي إلى التوسع في قطاعات اقتصادية أخرى إلى جانب قطاع تكنولوجيا المعلومات، وبخاصة تلك الخدمية التي تراجعت مؤخراً

على إثر ذلك، قرّرت الحكومة الرومانية في العام 2001 إعفاء المتخصصين والعاملين في قطاع التكنولوجيا والمعلوماتية من ضريبة الدخل بشكل كلي إذا ما استوفوا شروطًا معينة متعلقة بالدراسة والعمل. وبالفعل، أدّت هذه السياسة إلى رفع أجور العاملين في هذا القطاع، مما حفّز المتخصصين على البقاء في رومانيا للعمل. وإذا قارنا أداء الشركات الرومانية التي استفادت من تلك السياسة الضريبية الإعفائية بالشركات التي لم تنطبق عليها وعلى عُمّالها تلك الشروط، يتبين أن الشركات التي استفادت من الإعفاء توسّعت من حيث الإيرادات، عدد العمال، وقيمة الأصول المملوكة للشركة بشكل أكبر بكثير من نظيراتها.

توسع هذه الشركات وتطور أدائها الملفت للانتباه أدى إلى نهضة على صعيد قطاع التكنولوجيا والمعلوماتية ككل، كما أدى إلى تفوق القطاع في رومانيا على القطاعات نفسها في دول مماثلة لها من حيث حجم الاقتصاد. وقد كان لدخول رومانيا إلى الاتحاد الأوروبي عام 2007 الأثر الإيجابي الكبير إذ فتح لرواد هذا القطاع سوقًا ضخمًا لتقديم خدماتها المتطورة لشركات أوروبية كبرى من دون أي قيود جمركية.

لم ينحصر الأثر الإيجابي لهذه السياسة الضريبية على قطاع تكنولوجيا المعلوماتية فحسب، بل تعداه إلى القطاعات الاقتصادية الأخرى التي تستخدم الحواسيب والبرامج الإلكترونية بكثرة، وذلك بسبب قوة التشابك بين هذه القطاعات وقطاع تكنولوجيا المعلوماتية. ومن الجدير بالذكر أن الدولة الرومانية زادت إيراداتها ولم تنخفض بسبب هذه الإعفاءات الضريبية على دخول موظفي القطاع، بل زادت، ذلك لأن الدولة تمكنت من زيادة إيرادتها الضريبية من أرباح الشركات بسبب ارتفاع تلك الأرباح لدى شركات قطاع تكنولوجيا المعلوماتية.

إذًا، أدت هذه السياسة الضريبية ليس فقط إلى تطور قطاع تكنولوجيا المعلوماتية، بل تعدتها إلى القطاعات الأخرى المرتبطة بذلك القطاع، مما أدى إلى تنمية اقتصادية كلية زادت من فرص العمل وحدّت من هجرة الأدمغة وطوّرت القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية من دون التضحية بإيرادات الدولة.

يُمكن للبنان أن يُراجع التجربة الرومانية في تطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات وأن يستخلص منها العديد من العبر والدروس القيمة. يتميز لبنان برأس ماله البشري القوي في كافة القطاعات وبخاصة تلك الخدمية، وبارتباط أبنائه المقيمين في الخارج ببلدهم بشكل يحثهم على الاستثمار فيه  بغض النظر عن الظروف الصعبة المحيطة به. ولكن الدولة في لبنان ضعيفة وغير قادرة على صياغة سياسات طويلة الأمد تستغل هذه الطاقات أو تدعم قطاعات استراتيجية مثل قطاع تكنولوجيا المعلومات، كما فعلت رومانيا.

تتمثل المشكلة الأساسية التي تعيق الاستثمار في قطاع تكنولوجيا المعلومات في غياب البنية التحتية اللازمة مثل الكهرباء والإنترنت السريع. إذا أراد لبنان تنمية هذا القطاع، يجب عليه إيجاد طريقة لتأمين البنية التحتية اللازمة له. وبما أن الدولة غير قادرة سياسياً ومالياً على القيام بخطوات كهذه، يمكن طرح مشاريع على مطورين عقاريين في القطاع الخاص لحثهم على تطوير مناطق اقتصادية متخصصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات تكون مزودة ببنية تحتية متطورة.

إقرأ على موقع 180  تعمية اللبنانيين أو "شهاب الدين أشفط من أخيه"!

من خلال تطوير هذه المناطق في مناطق مختلفة من لبنان، يمكن لهؤلاء المطورين تأجير أو بيع أماكن لشركات تعمل ضمن هذا القطاع. ومن جهة أخرى، يمكن للمستثمرين اللبنانيين في الخارج، المتخصصين في هذا المجال والراغبين في الاستثمار في لبنان، تأسيس شركات في هذه المناطق الصناعية. ومن جهة ثالثة، يمكن للدولة تقديم إعفاءات ضريبية للعمال في تلك الشركات لرفع معدلات الأجور والحفاظ على العمالة المتخصصة داخل لبنان، بالإضافة إلى تقديم تسهيلات قانونية للشركات العاملة في هذا القطاع لتيسير تأسيسها للمستثمرين الخارجيين.

يمكن لهذا المقترح الاقتصادي بعد أن يُدرس بشكل أكثر دقة أن يساهم في تطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات في لبنان بشكل سريع وكبير كما حدث في رومانيا، مما سينعكس ليس فقط على هذا القطاع بل على قطاعات أخرى تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب الأزمة المالية والاقتصادية. فالقطاعات الخدمية التي كان يقوم عليها اقتصاد لبنان مثل القطاعات: الطبية، التعليمية، والمصرفية تعتمد أكثر من غيرها وبشكل كبير على تكنولوجيا المعلومات. لذا فإن تطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات يمكن أن يؤدي إلى التوسع في قطاعات اقتصادية أخرى إلى جانب قطاع تكنولوجيا المعلومات، وبخاصة تلك الخدمية التي تراجعت مؤخراً.

Print Friendly, PDF & Email
أيمن طيبي

باحث في الاقتصاد السياسي وطالب دكتوراه في جامعة مانهايم الألمانية

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  تعمية اللبنانيين أو "شهاب الدين أشفط من أخيه"!