يقول المحافظون إنهم يريدون مجتمعاً باقياً كما هو دون تغيير أو محافظاً على نقائه. ويقول الأصوليون الإجتماعيون إنهم يريدون العودة إلى الأصول أو الجذور، ولا ضرورة للتمييز بين الإثنين. فالبقاء كما أنت يعني ضمناً وعلناً أن الحاضر يجب أن يبقى حاضراً، دون النظر إلى المستقبل على أنه غير الحاضر، ودون النظر إلى الماضي على أنه مختلف عما هو باق. فالاستمرار على الحالة الراهنة يعني في الوقت نفسه دخول الماضي في الحاضر والمستقبل. فاستمرار الحاضر الراهن يعني استمرار الحاضر الذي سبقه، والذي سبق ما سبقه، وهكذا دواليك رجوعاً إلى الأصل، وذلك الحاضر أفضل من غيره، ومن عاش فيه أعلى منزلة من الذين عاشوا في غير عصر.
في النزعة المحافظة نوع من العنصرية. الذين يريدون بقاء المجتمع كما هو يرفضون المهاجرين إلى بلادهم، إذ أن ذلك يؤدي في نظرهم إلى إدخال عناصر جديدة، وبالتالي إلى تغيير يخشونه، وهم بذلك يحملون أفكاراً عن نقاء المجتمع الذي هو متحقق طالما بقي على حاله. هم يتحدثون عن الصين واضطهادها لمسلميها الذين يعيشون في منطقتها الغربية، مقاطعة سينكيانغ، وعاصمتها كاشغر، وعن مخططات الهند لطرد أعداد كبيرة من مسلميها. ولا ندري إذا كانت تلك وقائع صحيحة، بل هي بنظرنا مشكوك بها، والأرجح أنها مخالفة للواقع. لكنهم لا يتحدثون عن البارانويا في الغرب الناتجة عن الهجرة، أو محاولات هجرات الأفارقة إلى ربوعهم. ويغفلون أن ماضي البشرية هو تاريخ هجرات سكانية متواصلة. يتحدث الأنثروبولوجيون والأركيولوجيون عن أصل الإنسان في القرن الأفريقي، ولا بدّ من التساؤل من أين وكيف جاءت بقية البشرية، من دون أخذ الهجرات بالاعتبار.
مع ازدياد الهوة بين الطبقات، وبمعنى ازدياد الفقراء فقراً، وتنامي الأغنياء غنى، برغم قلة هؤلاء وكثرة الفقراء الذين يُشكّلون معظم سكان الأرض، يزداد الوعي الطبقي بالهوة المتسعة بين الطبقات، والهوة المتسعة بين الشعوب والأقوام، وتزداد احتمالات الثورة لولا اليأس الذي أصاب الطبقات الدنيا، مع فشل الثورة السوفياتية، وهي أوسع تجربة شيوعية حدثت حتى الآن
مسكينةٌ هي الليبرالية. وكأنها تدري، ونحن لا نعلم، أن اعتبارها لنفسها طبيعة بشرية يقود، أو قاد إلى رؤى للمجتمعات من داخلها وخارجها تعتبر أن ثباتها على حال معينة هو بمثابة ثبات الطبيعة؛ ومن ذلك إنكار التغيير المناخي الذي يناقض الايديولوجيا التي شبّ عليها أصحاب هذه الأفكار الذين لا يعترفون أن ثبات الطبيعة مؤقت، إذ يحدث فيها التغيير على المدى الطويل، فما نراه ثابتاً هو في الحقيقة متحوّل، لكن على وتيرة زمنية بطيئة.
تعود النزعة المحافظة أحياناً، وربما غالباً، إلى فاشية ظاهرة أو خفية: نحن نريد أن نبقى على ما نحن لأن حالنا هي الأفضل، أو لأننا أفضل من غيرنا ونتميّز عن بقية الناس بما نتمتّع به في صفات سببها أننا أرقى طبيعة من الغير؛ بدل أن يكون التمايز شأناً اجتماعياً- سياسياً، يجعلونه طبيعياً، بمعنى حتمياً. فالاستعلاء على الغير يصير عنصرية، والتي لا بدّ وأن تضع البشرية في سلم الارتقاء الذي يقبع أصحاب هذا الرأي على رأسه أو في أعلاه.
الهيراركية المزعومة للناس لا تتعلّق بالشأن القومي فحسب، بل بالطبقات وتصنيفاتها. الفقير هو طبعه الفقر. والغني هو كذلك لأنه استحقاق له. والطبقات الدنيا تنال ما يتناسب مع طبيعتها، كما الأغنياء هم في مكانهم المُقدّر لهم. ليست الظروف الاجتماعية والسياسية هي ما يُقرّر مصير الأفراد والطبقات والأقوام، بل هي طبيعتهم المقررة سلفاً كتتابع الليل والنهار.
إن خطر صعود اليمين المحافظ يُهدّد مستقبل البشرية كما تُهدّد إسرائيل الوجود الفلسطيني. وقد صدق من جعل عنوان كتابه “عالم يحترق” للتحدث عن الضجة المثارة عالمياً حول هذا الصعود لدى مختلف أطراف الطيف السياسي، والهلع الذي أصابها. لكن ردة الفعل في مختلف أنحاء الأرض أقل من المطلوب لإنقاذ البشرية التي تحول الطبقات العليا بينها وبين مصير إنساني لا يتحقق إلا بالاشتراكية. يجب أن تثور الطبقات الدنيا ليس ضد الطبقات العليا فحسب، ولكن قبل كل شيء ضد الرأسمالية التي لا تخضع لضوابط إنسانية، بل ترى في الأحوال الراهنة ما يناسبها، وتعتبر ذلك ما تستحقه البشرية ولو على حساب مصيرها؛ وهي قد جاءتنا منذ بضعة عقود من السنوات بالنيوليبرالية التي أدّت إلى تفاوت أكبر بين الطبقات، وإلى نزاعات قومية وإثنية مدمرة.
مع ازدياد الهوة بين الطبقات، وبمعنى ازدياد الفقراء فقراً، وتنامي الأغنياء غنى، برغم قلة هؤلاء وكثرة الفقراء الذين يُشكّلون معظم سكان الأرض، يزداد الوعي الطبقي بالهوة المتسعة بين الطبقات، والهوة المتسعة بين الشعوب والأقوام، وتزداد احتمالات الثورة لولا اليأس الذي أصاب الطبقات الدنيا، مع فشل الثورة السوفياتية، وهي أوسع تجربة شيوعية حدثت حتى الآن، الأمر الذي شكّل إحباطاً كبيراً لمن حمل في وعيه مشروعاً ثورياً تحتاج إليه البشرية، ليس لردم الهوة وحسب، ولكن للحفاظ على بقائها نظراً لما صارت الرأسمالية تُشكّله من أخطار تشمل الجميع. ليس الإنسان هو الذي يُدمّر البيئة، بل هو النظام الرأسمالي اللاإنساني الذي يسمح بذلك، بل يدفع بهذا الاتجاه. والإحباط الذي أصاب البشر نتيجة فشل التجربة السوفياتية لا يؤشر إلى حالة ثورية قريبة المنال.
ربما كان اليسار الثوري، وليس يسار اليمين في الديموقراطية الغربية، بحاجة الى تفكير من نوع جديد، وإلى تنظيمات تتخطى ما هو متاح حالياً. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.