الافتتاح الأهم تميّزٌ مؤثرٌ بكلمة الجريح الفلسطينيّ إسلام عسلية وتضمينها وعدًا وعهدًا فلسطينيًّا مقاومًا بأن “غزة ستقاوم وتصمد كما قاوم وصمد الإمام الحسين”، وقوله “كما قال الحسين: هيهات منا الذلة”.. بما يعنيه ذلك من التحام فلسطينيّ بالنّهج الحسينيّ.
إذن للمؤتمر واسمه أهميّته الجامعة، ولجغرافيّة الحيّز الكربلائيّ قداسته الواسعة، ولاسم المفتتح إسلامه ووحدته، ولِما استحضره من الإمام الحسين روحيّته الممانعة، ما يشي بجيل اليوم التّالي ما بعد “الطوفان”؛ الوحدة عروته الوثقى؛ وحدة إسلامٍ تُمسي إحدى أبرز نتائج هذا “الطوفان”، وواحدة من ثوابت ومكوّنات النّصر الآتي.
***
قبل “طوفان الأقصى” وبعده يولد جمهور المقاومة في بيئة مقيمة على ثنائيّة ثقافتين تعيشان معه وفيه طوال حياته إلى حين وفاته إما شهيداً وإما منتظراً:
– الأولى؛ ثقافة الشهادة، المنبعثة من كربلاء المضمّخة بدماء الإمام الحسين ثالث أئمة أهل بيت الرسول.
– الثانية؛ ثقافة الانتظار، انتظار الإمام المهديّ المنتظر، ثاني عشر وآخر أئمة أهل بيت النّبيّ محمد.
وبين هذه وتلك، يرْكُز فتيّا ويبلغ من العمر عتيّا، على واحدة من اثنتين، إمّا شهادة مفضية إلى انتصار ذاتيّ بالفوز بالجنة، وموضوعي بنصر للبيئة الحاضنة بمعزل عن الحسابات الدنيوية، وإمّا انتظار بتمهيد لظهور الحجة القائم “ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعدما ملئت ظلمًا وجورًا”.
على هذا تمسي المعركة القائمة حاليًّا على هذه الجبهة الممتدّة من غزة ولبنان فالعراق واليمن فإيران، تفصيلاً يكاد لا يُذكر إذا ما قيس بالثّنائية تلك، فلا الشّهادة والشّهداء في مقام المقارنة مع سيّد الشهداء الإمام الحسين، ولا انتظار الرّدّ من جبهة المقاومة على الطّغيان الإسرائيلي أكثر من مجرد فارق زمنيّ بسيط لا يقاس بزمن الانتظار العظيم.
***
أولاً؛ مسار الشّهادة:
في الجزئيّة الأولى من هذه الثنائية وهي الكربلائيّة يفتح المشهد على الصور التالية:
طفولة ترضع حبّ الحسين مع حليب الأم، وتتشرّب تضحياتِه في مجالس العزاء، ليطفح كيل الجهاد إذ يطفو الدّم بالغًا ذروته يوم عاشوراء، يوم ضحّى الإمام بكلّ ما يملك من نفس وأهل وأبناء وأصحاب أوفياء، رافعًا سقفًا سماويًّا لا ولم ولن يبلغه أحد بعده، ما يجعل أيّة تضحية نقطةً في بحر كربلاء الدمويّ، ولهذا يسهل أمام شهداء المقاومة فقدان الأبناء والأزواج والإخوان، ويُحتمل أمام حرق خيام أهل الحسين تدميرُ البيوت واحتراق الصّناعات والزّراعات، ويهون أمام مسيرة السبايا مسارُ النّزوح عن مسقط الرّأس إلى غربة المجهول وإن لم يبلغ حدّ التماثل. ولهذا كلّما تعاظمت القدرة على احتماليّة الكلفة، تضاءلت أمام عظمة وروحية التكليف، لا بل إنّ إمعان العدوّ البالغَ حدّ الإيغال في الدّم، يُحيل الشّهادة هدفًا قائمًا بحدّ ذاته مهما بلغ عدد الشّهداء في سبيل المقدّس، “وهل الشّهادة إلّا الموت الواعي من أجل تحقيق الهدف المقدّس؟” كما يقول المفكّر الاسلاميّ الكبير الشهيد مرتضى مطهّري.
***
ثانياً؛ مسار الانتظار:
في الجزئيّة الثانية من هذه الثنائيّة وهي ثقافة الانتظار، يحمل جمهور المقاومة جراحه اليوميّة، ماضيًا في مسار الانتظار، واضعًا كلّ جرح في هذا السّياق، الذي سرعان ما يتحول إلى سباق، نحو الميدان الممهّد للظّهور، منتظرًا ساعة الرّدّ الذي يمسي جزءًا أساسيًّا من الرّدّ نفسِه، وساعات النصر التي لا انفصام لها ما بين جبهة وأختها، وساعات التّحرير وإن طال أقصاه ببلوغ الأقصى. ولهذا بقي جمهور المقاومة ويبقى أكثر من ثلاثة أسابيع منتظرًا ردّها على الاغتيالين، متابعًا حياته وأعماله، مستعدًّا للآتي، غيرَ آبهٍ بالتّهويل والتّهديد والوعيد، ولا بالأساطيل والمدمّرات وحاملات الطّائرات والغوّاصات، كأن شيئًا لم يكن ولن يكون، أو “كأنّ الدنيا لم تكن وكأنّ الآخرة لم تزل” كما قال الإمام الحسين نفسُه، فالانتظار هو حياة المنتظرين كلُّها، فما بال أسابيع وأيام؟
***
ثالثاً؛ مسار الإستنزاف:
الجواب يقول إن جبهة المقاومة ربحت هذه الجولة من الحرب قبل أن تبدأ. ربحت حرب الاستنزاف وإتلاف الأعصاب بامتياز، وربحت تكبيد العدو ومَن معه مئات مليارات الدولارات قبل الرّدّ، وتلك سابقة موصوفة، وقبل ذلك كلّه ربحت إنجاز الوحدة وانتصار الشهادة.
وما بين ثقافتَي الشّهادة والانتظار، وملامح الوحدة الاسلامية المستولدة من رحم غزة ودمائها، يقف العدوّ حائرًا على قدمٍ واحدة عرجاء، في كِيان متشظٍّ على انقسامات عامودية، وانهيارات وجودية، وتهجير ونزوحات وإخلاءات، واختباء السياسي كما الشعبي تحت الأرض، يخنقه انتظار الرّدّ من النّهر إلى البحر على مدى الجغرافيا الفلسطينيّة، محاصِرًا نفسه بأساطيل الطّائرات والمدمّرات كما حاصرها بالجدران العازلة حدّ تقطيع أوصال الكِيان، واضعًا حاله في أتون حرب استنزاف قبل أيّ ردّ.
وإذا كانت كلفة الأسبوع الأوّل من انتظار هذا الرّدّ 11 مليار ونصف المليار دولار، فماذا عن انتظارات الأسابيع التالية؟ وماذا عن الرّدّ نفسه؟ وماذا عن ما بعد الرّدّ؟
الجواب في الرّدّ المنتظر.
“قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ”.