نوال الحوار18/08/2024مؤخراً، شاهدت حواراً مع بسّام كوسا على قناة “العربية”.. وعلى مدى ساعة لم أستطع رفع عيناي عن الشاشة الصغيرة. لقد حاورتُ من خلال عملي كإعلامية الكثير الكثير من المُبدعين العرب، لكن للأمانة قلة منهم تستطيع التحدث بهذه الطلاقة والإنسيابية. لذا، إزددتُ قناعة أن بسّام كوسا شخصية مؤثرة. غنية، مُشبَعة بالفكر المتطور. متوقد ويتسلل إلى عمق الأشياء ليكتشف حقيقتها لا شكلها الخارجي.
***
وفيما نحنُ في خضم طغيان الوجوه الملوّنة الفاقدة للموهبة وشروطها، يُطلُّ علينا بسّام كوسا هذا العام بعملين مميزين هما “تاج” و”مال القبان”. الأول، يتقاسم فيه دور البطولة مع النجم السوري تيم حسن. هي المرة الثانية التي يجتمع فيها هذا الثنائي، فقد سبق لبسّام كوسا أن ظهر مع تيم في عمل يُعتبر أيقونة الدراما السورية وهو مسلسل “زمن العار” الذي حصد جوائز عديدة (دراما إجتماعية). ويُصنّف “تاج” كملحمة درامية تتناول تاريخ سوريا الحديث. بدأت أحداث المسلسل مع دخول سوريا تحت الإنتداب الفرنسي حيث يقوم بسّام بدور رياض بك جوهر، الشخصية التي وضع ملامحها الكاتب عمر أبو سعدة والتي جسّدها جوكر الدراما السورية، وهو لقب يستحقه بجدارة بدءاً من حركة اليدين وصولاً إلى تعابير الوجه، لا سيما أننا أمام شخصية صعبة مركبة لتاجر دمشقي يضع كل إمكانياته وخدماته الجاسوسية في خدمة المُستعمر.
أما مسلسل “مال القبان”، فكما يقول المثل الشعبي هو “بيضة القبان” في أعمال رمضان 2024؛ كتبه الثنائي يامن الحجلي وعلي وجيه وأخرجه المبدع سيف سبيعي، وقام ببطولته بسّام كوسا وتدور أحداثه في إطار تشويقي. محور المسلسل هو شخصية الحاج نعمان رب العائلة الذي ينشأ بمحيط إجتماعي قاسٍ يُدخله بعلاقة معقدة مع والدته وعلاقة أصعب مع أولاده؛ شخصية مركبة فيها مفارقات كثيرة كالقوة والصبر، يقابلهما ضعف وهشاشة. شخصية متدينة جداً تنهمك بتنظيف المساجد تقابلها شخصية وصولية مكيافيلية تُبرر كل وسيلة لأجل الغاية ومسرح هذا العمل هو سوق الهال، أكبر سوق للخضار في الشام. يقف المسلسل أمام حقيقة أن الجميع خاسر حتى أصحاب النفوذ والمال والقوة وهو يختزل المصائر السورية بعد الحرب. مسلسلٌ ناضجٌ وينفذ الى المتلقي بحرفية عالية، وفيه تفوّق بسّام كوسا كعادته على نفسه.
***
الدخول إلى عوالم الفنان بسّام كوسا ليست بالأمر السهل؛ ففي كل لقاء معه لا بد أن نتوقف عند ما يقوله ليس فنياً فحسب، بل في مجالات الأدب والسياسة والإجتماع أيضاً. تحدثت عن الأدب لأنّه قارئ نهم ويكتب في الصحافة بلغة رصينة ومحبوكة ولنتذكر أنه كتب مجموعة قصصية بعنوان “نص لص”، وأصدر رواية بعنوان “أكثر بكثير” والتي قال عن ظروف كتابتها إنه حلمٌ تمنى أن يُحقّقه في مضمار لم يسبق له خوض غماره، وإنه ليس محترفاً لكن أراد أن يُعبّر عن وجهات نظر تتناول همومنا الحياتية والمعيشية اليومية.
ويُعد بسّام كوسا من الفنانين السوريين القلائل الذين أصروا على البقاء في الشام ولم يتركها حتى في أحلك الظروف وبرغم ما قيل ويُقال عن مواقفه السياسية، إلا أنّه كان شجاعاً بما يكفي، فلخص الأزمة بقوله إن هناك فراغاً سياسياً لم تملأه الحكومات. يقول بسّام: “أنا لست سياسياً ولا أدعي ذلك، لكنني مواطن، والمواطَنة هي أن يشعر الشخص أنه يمتلك المكان والانتماء له، والحكومات العربية هي السبب وراء تراجع هذا الانتماء لدى مواطنيها، بسبب الفراغ السياسي الذي لم تعمل الحكومات على أن تملأه بين السلطات العليا والشارع وبين المواطنين ومن يدير شؤونهم؛ لطالما كان هناك فراغٌ، والآن نحن نغوص في الوحل”.
***
وعندما نتناول سيرة بسّام كوسا، إنما نتناول تاريخاً يمتد لسنوات طويلة حفرها هذا الفنان بصمت وتأنٍّ من خلال أدوار ذات طبيعة إجتماعية وسياسية أداها بحرفية عالية. شاهدناه في الجزء الأول من مسلسل “باب الحارة” ولم يظهر في أي جزء آخر لاحقاً، وبرأيي أن شخصيته في ذلك المسلسل كانت سبباً أساسياً في نجاح ذلك الجزء الوحيد الذي استحق المشاهدة وبرغم نجاحه الباهر في مسلسل “الزير سالم” حيث جسّد دور الملك (التبع اليمني)، لم نشاهده في أعمال تاريخية أخرى.
***
الحقيقة أن سبر أغوار الشخصيات التي أدّاها على مدار هذه السنوات تحتاج إلى أكثر من مقال. بسّام كوسا رجل صنع دراما حقيقية جادة وهادفة وحجز لنفسه مكاناً بارزاً في طليعة الفنانين العرب الذين التزموا الأعمال الهادفة والمتقنة التي ترتقي بها الدراما كرافعة أساسية في بناء الثقافة العربية.
