“الطوفان” يُعوّم الدور القطري.. ما هي فوائد “التحوط الإستراتيجي”؟

علي رعدعلي رعد18/08/2024
يتضمن الدستور القطري الذي أقر في نيسان/أبريل 2003 في مادته السابعة نصاً يفيد بأن السياسة الخارجية القطرية "تقوم على مبدأ توطيد السلم والأمن الدوليين عن طريق تشجيع فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية".

عندما تصبح الوساطة في صلب الدستور، يعني ذلك أن قيادة هذا البلد لا ترتجل بل وضعت في صلب أهداف سياستها الخارجية أن تكون حاضرة حيث يمكنها أن تحضر. بين طالبان والأميركيين. بين الإيرانيين والأميركيين. بين الفصائل الفلسطينية. بين اللبنانيين الذين نظّموا خلافاتهم على أرض الدوحة في العام 2008 فكان اتفاق الدوحة. بين أهل اليمن، كما بين أطراف النزاع في دارفور وينسحب ذلك على النزاع بين السودان وتشاد وبين جيبوتي وأريتريا إلخ..

ومنذ اللحظات الأولى لعملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدت قطر التي لا تتجاوز مساحتها الإجمالية 11,571 ألف كلم2 فاعلاً إقليمياً ودولياً في محاولة لايجاد تسوية للحرب التي تشنها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني على أرض غزة.

وعندما يُقرّر مدير وكالة المخابرات الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز منح رئيس جهاز أمن الدولة القطري عبد الله بن محمد الخليفي وسام “جورج تينيت” تقديراً لجهوده في تعزيز التعاون بين الولايات المتحدة وقطر وبخاصة “في مجال مكافحة الإرهاب”، حسب موقع إكسيوس، فإن هذه الإشارة وحدها كافية للقول إن معظم الأدوار التي كانت تقوم بها قطر في العقود الثلاثة الماضية، كانت تحت خيمة الولايات المتحدة، ولا ينفي ذلك انتفاخ الدور القطري إلى حد التصرف كـ”دولة عظمى”، خصوصاً في زمن الأمير السابق حمد بن خليفة آل ثاني ووزير خارجيته حمد بن جاسم آل ثاني، بدليل مآلات الدور القطري في العديد من ثورات “الربيع العربي” (تونس، مصر، ليبيا، سوريا، السودان إلخ..).

وإذا كانت مرحلة الإشتباك بين قطر والسعودية (2014 ـ 2021) وما تخللها من حصار لمدة أربع سنوات، قد أدت إلى ضمور الدور القطري نسبياً، فإن مرحلة “طوفان الأقصى” أعادت تعويم دور هذه الدولة الخليجية الصغيرة، فعلى مدى عشرة أشهر تخللها العديد من الصولات والجولات بين الدوحة والقاهرة، على وجه التحديد، تمكنت قطر من زيادة رصيدها السياسي والدبلوماسي. ومما لا ريب فيه أنّ الديناميات الإقليمية التي كرّسها “طوفان الأقصى” صبّت في خانة المعايير التي تعتمدها قطر كدولة وسيطة في رسم سياساتها الخارجية وبناء تحالفاتها الإقليمية والدولية، بمعزل عن النقاش الأساسي حول أخلاقية لعب دور “الوسيط” في حالة الصراع الجاري على أرض فلسطين، سواء من قبل قطر أو مصر!

وقد مرّت قطر بمحطات تاريخية ساهمت في جعلها عنواناً كبيراً للمفارقات والتناقضات السياسية.. ومن خلال تتبع المسار التاريخي لدولة قطر الحالية، يُمكن القول إنّ الدوحة قد شهدت تحولين أساسيين أثّرا في بنيتها كدولة، الأول: يتمثل في تبعية تاريخية للمستعمر البريطاني، وفي ما بعد، انتقلت هذه التبعية إلى الولايات المتحدة مع تعاظم نفوذها عالمياً وشرق أوسطياً. أما التحوّل الثاني، فهو اكتشاف النفط، والذي بدأت عائداته تتدفق في خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم اكتشاف الخزان الغازي الذي جعل قطر في تسعينيات القرن الماضي ثالث دولة من حيث الإحتياطي الغازي عالمياً، الأمر الذي أدّى بدوره إلى نقل الدوحة من مكان إلى آخر، إذ باتت تعرف اليوم بـ”عملاق الطاقة” إلى جانب دول أخرى أولها روسيا وثانيها إيران.

” التحوّط هو المنهج الأمثل لتعويض صغر حجم الدولة وغياب أو قلة وسائل القوة الصلدة المتاحة أمامها لتنفيذ سياساتها الخارجية”

تحوّط أم تبعية؟

تُعدّ علاقات قطر مع أقرانها الخليجيين والإقليميين أمراً جوهريا لفهم سياستها الخارجية ودورها في مجلس التعاون الخليجي. ويمكن للإستشهاد النظري في العلاقات الدولية أن يساعد في محاولة تفسير سلوكيات الدول إلى حدّ ما في ظل بيئة دولية وإقليمية معقدة، فالنظرية هي “ركيزة أساسية لتفسير الديناميات الخاصة بالسياسة الدولية”. وفي كتاب (بروك تيسمان)، (وفوجتك م. وولف) الذي يحمل عنوان “القوى العظمى والتحوط الاستراتيجي: حالة استراتيجية أمن الطاقة الصينية“، يُعرّف الباحثان التحوّط الإستراتيجي (Strategic Hedging) على الشكل الآتي: “أن تتعاون الدول المتحوّطة مع مصدر تهديد أمنها الوطني، وذلك لتجنّب التهديدات أو الدخول في صراعات غير متكافئة، وهو ما يطلق عليه “التوازن الناعم” (Soft Balancing)”. وفي نفس الوقت، تعتمد على “التوازن الصلد” (Hard Balancing) في مواجهة مصدر التهديد. وعليه، فإن سلوك التحوط يتمثل في اتباع استراتيجيات ترتكز على آليات المشاركة والاندماج من جهة، والتوازن بالمنظور الواقعي الذي ينعكس في التعاون الأمني مع الدول الأخرى، وزيادة وتحديث القدرات العسكرية وغير العسكرية من جهة أخرى”.

وثمة إجماع بين الباحثين بأنّ التحوّط هو شكل من أشكال إدارة المخاطر. ومن هنا نفهم تعريف إيفان س. مديروس (Evan S. Medeiros) للتحوّط بأنّه “استراتيجية تأمين جيوبولتيكي للدولة”، للحفاظ على أمنها القومي.

واليوم، يمكن أن نفهم من خلال نظرية “التحوّط” (Theory of Hedging) كيف أنّ قطر استطاعت بأن تحتفظ بعلاقات عميقة مع الولايات المتحدة، وكيف أنّها تمكّنت أيضاً من الحصول على قدر من الاستقلالية عن المملكة العربية السعودية، وقد مكّنتها هذه السياسة في نهاية المطاف من الحفاظ على قنوات مفتوحة مع كافة الأطراف في الشرق الأوسط، من إيران إلى طالبان ومن فتح إلى حماس، على سبيل المثال لا الحصر.

إقرأ على موقع 180  فلسطين معركة عادلة.. معركة العدالة الإنسانية (2)

وينبغي أن تكون الدولة المتحوّطة قادرة على تمرير الأعباء (Buck-passing) وبخاصة الأمنية منها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تفترض الدول الصغرى مثل قطر بأن قاعدة “العُديد” العسكرية الموجودة على أراضيها، والتي تعدّ أكبر قاعدة جوية أميركية خارج الولايات المتحدة، قادرة على أن تُجنّبها عبء التوازن أمام بعض الدول الإقليمية مثل ايران والسعودية، وبالتالي تجنب الأطماع أو مخاطر الحرب..

وقد استطاعت قطر أن تلعب دوراً لا يتناسب مع حجمها وقوّتها بفضل السياسة التحوّطية، بيد أنّ هذا الحال لم يدم طويلا، وقد أدّى في ما بعد إلى نتائج عكسية لم تكن مأخوذة بالحسبان من قبل المسؤولين القطريين. فقد مثّل الحصار، التي تعرّضت له الدوحة من قبل أربع دول عربية من عام 2017 إلى عام 2021، فشلا للتحوّط الاستراتيجي المُعتمد. ولعلّ هناك سبب كلّي وجوهري جعل من هذه الدول تخرج عن طورها، هو محاولة قطر تغيير “الوضع الراهن” (Status quo)، والاضطلاع بأدوار إقليمية-وظيفية أكبر من حجمها ونفوذها بما لا يتماهى مع سياسات دول الحصار. فإستراتيجية التحوّط تستهدف المحافظة على الوضع الراهن، وحماية الأمن القومي للدولة المتحوّطة، وهذا ما لم يتداركه صُنّاع القرار في الدوحة.

وفي حالة الحرب “الإسرائيلية” على غزة، تُقدّم الحالة القطرية نموذجاً للتحوّط الإستراتيجي لدولة صغرى تجاه دول إقليمية (“إسرائيل” والسعودية وإيران) وكبرى مثل الولايات المتحدة. بيد أنّ التحوّط لا ينجح حينما يتعلّق الأمر بالحروب، وبخاصة عندما يرتبط الأمر بزعزعة أمن “إسرائيل”، والتي تُعدّ بمثابة قاعدة غربية متقدمة للولايات المتحدة في المنطقة العربية. وبرغم بشاعة الحرب “الإسرائيلية”، إلاّ أنها ساعدت في تعرية النظام الرسمي العربي، وأبانت المواقف بشكل لا لبس فيه، فالدول تُعرف وتُقاس في الأزمات والحروب.

خاتمة

في هذا السياق، من غير المرجح، أن ترسم قطر سياستها الخارجية من دون ضوابط “العم سام”، فهامش المناورة وضبط الإيقاع ليسا من صلاحيات “عملاق الطاقة”. ولفهم “التحوّط الإستراتيجي” التي تقوم به السياسة الخارجية القطرية، يجب أن يوضع في إطار تاريخي ووظيفي، فعقدة الجغرافيا والديمغرافيا والأمن والانقلابات التي مرّت بها ما زالت ماثلة في عقلية حكّام قطر.

هذه المقاربة الجديدة في السياسة الخارجية القطرية لا يمكن أن يُكتبَ لها النجاح في هذا التوقيت الدقيق، فالدوحة أُنشئت على تبعية تاريخية، بدءاً ببريطانيا، وانتهاءً بالولايات المتحدة. لذا، عند ظهور الأزمات الحقيقية والحروب، سوف تضطر قطر لإعلان نواياها بشكل علني، بحيث لن يكون هناك مجال للتحوّط الإستراتيجي..

تنبثق استراتيجية قطر التحوّطية من هاجس الحفاظ على الذات والوجود، وحماية الموارد الطبيعية الهائلة واستمرارية العائلة الحاكمة. في الواقع، أنشئت الاستراتيجية على فكرة الحفاظ على وجودية الدولة، بمعزل عن النفوذ أو التأثير الذي يأتي في مرتبة ثانية بعد البقاء. لذلك، لا تغفل الدوحة أنّها ضمن الفضاء الجيوسياسي السعودي، بكل ما يرتب عليها من فرص ومخاطر. وتأسيساً على هذه المخاوف الإستراتيجية والأمنية، جنحت قطر إلى التعاون مع تركيا عسكرياً واقتصادياً، وانتهجت سياسة تحوّطية حذرة مع ايران، وذلك لعدم رغبتها في اثارة غضب الإدارة الأميركية، بسبب حساسية العلاقات الإيرانية الأميركية.

وتكمن أهمية دور قطر في القضية الفلسطينية في أنّها تتقمص أدواراً إقليمية-استثنائية. فالموضوع هنا غير مرتبط بجوهر أو بأحقية القضية، بقدر ما هو مرتبط بالوظيفة التي تُوكل إليها من الإدارة الأميركية. أما تراجع الدور التحوطي أو أفوله فيستوجب إشارة نظرية إلى العوامل التي تسمح باستمرار السياسة التحوّطية، “فإذا كانت الدولة المتأثرة من هذه الاستراتيجية لاعبًا مهيمنًا في النظام العالمي، فقد ترغم الحليف الأضعف الذي يتحوّط استراتيجيًا على الكشف عن نواياه، لمعرفة إلى أيّ جانب ينتمي”. لذلك ليست كلّ دولة تُعطى دوراً وظيفياً وفريداً من نوعه في المنطقة، هي دولة مستقلة وذات سيادة، فكلُّ ما في الأمر أنّ لديك مجالاً حيوياً محدداً تمارس فيه نفوذك الدبلوماسي والجيوسياسي.

المصادر والمراجع:

Print Friendly, PDF & Email
علي رعد

كاتب، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  تقرير "الإستشاري": أزمة لبنان تتدحرج.. والعراق الأكثر توتراً