في المكاسب:
أولاً؛ لقد طويت الى غير رجعة موضوعة الاصطراع داخل البيئة الإسلامية، فالفرز الذي أصاب الأمة الإسلامية أسقط مشروع الفتنة المذهبية وقوّم وجهة الصراع في مواجهة العدو الصهيوأميركي وعزّز الإرادة العابرة بل وخلق اتجاهاً فعلياً في الأمة نحو التآزر والتكاتف والوحدة على أرضية المقاومة ورفض الهيمنة.
لقد كان “طوفان الأقصى” تجسيداً فعلياً لتوحيد كتلة تعتبر بمثابة الإرادة الحيّة والحرّة في الساحة العربية-الإسلامية لتشّكل نواة التغيير اللاحق أو ما نسّميها بالموجة الثانية من الربيع العربي حيث ستكون شرعية العمل نحو التغيير في واقعنا أرسخ وأوسع.
ثانياً؛ انفكاك أحادية الرواية الصهيونية وهيمنتها على بقية الروايات حتّى وصلنا اليوم إلى تعّدد روايات عالمياً وتشكيك بالرواية الصهيونية.
ثالثاً؛ سقوط نموذج الغرب في منطقتنا ومعه أسطورة هيمنة التقانة ودعوى أمنه الذي لا يتزعزع والجدار الفولاذي، فالكيان كاد أن يتهاوى في أيام قليلة لولا المساندة الغربية المفتوحة، ما يُدلّل على هشاشته، إذ لم تستطع التقانة حتّى اليوم أن تحسم المعركة ولا أن تُحقّق أياً من الأهداف التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية واستطاع المقاومون برغم الضرر الذي أصابهم أن يُهددوا استقراره وأمنه ويتصّدون بشجاعة وجدارة عسكرية قلّ نظيرها للآلة العسكرية الصهيونية.
رابعاً؛ ازدادت القضية الفلسطينية حضوراً في الوعي العالمي وفي الأروقة السياسية والقانونية والحقوقية، ومن جهة أخرى، تسير إسرائيل إلى نوع من التوتّر في علاقاتها الخارجية وتبّدل في نظرة الأجيال الصاعدة إليها في الغرب مع ما سيُخلّفه ذلك من تحول كبير في صناعة القرار عندهم والسؤال حول العبء الإسرائيلي على سياسة أميركا الخارجية ومصالحها والداخل الأميركي على السواء.
في الوقت نفسه، شهدنا انزياحاً غير مسبوق للشعب الفلسطيني؛ إلى مقاومته وسرديته وتبنّيها، وفرزت هذه العملية الواقع العربي بين قناعات عدة، الغالبة فيها تفيد أنّ الأمة قادرة أن تنهض نهوضاً ذاتياً وتعتمد على نفسها، فجناح صغير في منطقة غزّة كاد أن يودي بإسرائيل، ومقاومة لبنان ما زالت تقاتل في الشريط الحدودي الأمامي برغم مضي شهر وأكثر من القوّة المفرطة، ناهيك بانكشاف كل بقعة في الكيان أمام المقاومة للمرة الأولى في تاريخ الصراع مع إسرائيل.
خامساً؛ لقد صار الفرز واضحاً داخل التجربة الإسلامية بين النموذج التكفيري والنموذج الأميركي والنموذج المنافق والنموذج التحّرري. صار سهلاً التعرف على إسلام يحمل مشروعاً تحّررياً متبتلاً سبيل الكرامة الإنسانية.
سادساً؛ اعتماد المقاومات على ذاتها لجهة القدرة على التصنيع برغم صغر المساحة الجغرافية التي تتحرّك فيها وعدم أريحيتها أثناء عملها وسط محيطات جغرافية وسياسية واجتماعية لا تؤمن بمعظمها بخيار المقاومة، لا بل تعتبرها عدواً.
سابعاً؛ نجح خطاب المقاومة في التكامل مع المجتمع بحيث نشهد أمامنا مجتمعات لا نظير لها في التاريخ في التزامها المبرم بحّقها وثباتها على موقفها ونصرتها لقضيتها برغم حجم الكلفة بل تراها تزداد تشبثاً وحرصاً على استيلاد طاقة اجتماعية ثورية تحّررية من دون كلل وهذا من أكبر المكاسب الحضارية والتاريخية، كما ويهمنّا أن نشير إلى أنّ هذه المقاومات والشعوب بلغت من النضج الكافي أن تسّيل خطابها ومشروعيته في العالم وتعّرف بقضيتها مقابل العدو الذي يقاتل بمزيد من القتل ويغتال كل يوم الضمير الإنساني العالمي في مسار العزلة – ولو مع بعض الوقت – إذ يبدو أنّه حالة نافرة عن القانون الطبيعي والإنساني تباعاً وتجربة شاذة عن حركة البشرية تتجاوز نازية هتلر.
ثامناً؛ شدّة وقوّة ثقافة هذه المجتمعات المقاومة وبنيتها التحتية جعلتها قادرة على التغّلب على اغتيال قياداتها ورموزها والاستمرار دونما ترّدد واستيعاب الصدمات بل تراها ازدادت توّهجاً وحيوية وحضوراً ونجح المقاومون أن يديروا معاركهم ويُطوّروا أداءهم بشكل لا مركزي وينهضوا بسرعة ويستعيدوا المبادرة وإن دّل ذلك على شيء فهو يدّل على أنّ الفرد المقاوم مجبول بنيوياً بحيث يقف في قلب المعركة من دون أن يهتّز ويبادر بمفرده ويصنع دوره، فالمقاومة نجحت في اكتشاف واستكناه إنسان من هذا القبيل وهذا حتماً سيعطيها أفضلية اجتماعية حضارية.
تاسعاً؛ انكشاف المخطط الصهيوني أمام عموم الشارعين العربي والإسلامي بل والعالمي. لم تعد المسألة مجرد إضعاف لكل من حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله بل إدخال المنطقة في الزمن الإسرائيلي؛ هذا ساعد إلى حد بعيد في تعزيز أطروحة وحدة الساحات بحيث تنتقل من النظرية والرغبة إلى قناعة شعبية وإرادة عابرة، فإذا لم نخض المواجهة موّحدين سنخوضها كل على حدة وستكون كلفتها أكبر.
عاشراً؛ أثبتت مجدداً الإدارة الأميركية ومعظم أنظمة الغرب أنهم ليسوا إلا الوجه الآخر لإسرائيل كما ثبُت أن العدو يقوم بشراء الوقت لانتاج وقائع جديدة وبالتالي هو يتبادل وأميركا الحيلة علينا- هذا ما كان على شرائح من الشارع الإسلامي غير المسّيسة والمنخرطة استيعابه، وربّما احتاج لبعض الوقت من 7 تشرين/أكتوبر 2023 حتى 7 تشرين/أكتوبر 2024، أي إلى أن انجلت كامل الصورة وتحوّلت الافتراضات إلى حقائق ملموسة ومعطيات واحتجاجات دامغة.
حادي عشر؛ عبّر العدو بأسلوبه الوحشي في الحرب عن ضعف وفراغ هائلين واضطراب في الشخصية الجماعية الصهيونية وقدم دليلاً إضافياً عن حالة الهلع الوجودي التي تساوره، وهو الأمر الذي يقتضي مزيداً من الدرس والرصد في المرحلة المقبلة.
ثاني عشر؛ تزايد شرعية المقاومة وحضورها في الشارعين العربي والإسلامي، بحيث أنّ أيّما تصويت او استفتاء لو حدث اليوم سيكون بمثابة طوفان شعبي لمصلحة المقاومة. لقد غدت قضية المقاومة وتأييدها هي محور كل نقاش وموقف اليوم بعد أن كادت تغيب عن الأجندات السياسية للقوى والأحزاب العربية، وها هي تتقدم لتصير محور السياسة، فاستعدنا بالمقاومة السياسة بعد أن استغفلنا الغرب بالاجتماعي واليومي وكاد يُنهي موضوعة السياسة عند شرائح واسعة من عالمنا العربي والإسلامي. ولا اظن ان القوى التقليدية قادرة على ملء الساحة والتحدي القائم بأجندة لا تكون المقاومة في صلبها.
ثالث عشر؛ هشاشة بنية إسرائيل وواقعها، وبرغم ما تتظاهر به وتظهره من أبعاد قوّة مادية وخشنة جداً وغطرسة وتعّدياً، لكنّه ظهر للعيان وللأجيال العربية والمسلمة أنّ عدونا يُخفي في حقيقته جانباً آخر من القصة ألا وهو الخوف والقلق الوجودي والهشاشة، فنقاط قوّة إسرائيل ليست من النوع الذي يُعّوض فيها نقاط الضعف. وهذا ما علينا دوماً التنبيه إليه كي لا ننساق لرؤية الكيان الصهيوني وكيف يقّدم نفسه للغير فيُبرز جانباً ويُغفل الأعمق. لقد تبيّن أنّ هذا الكيان لا يستطيع أن يصمد حتّى أياماً قليلة أمام مقاومات جادّة وقاصدة وهادفة وتستفيد من تصحيح أخطائها. ومن دون الدعم والإسناد الغربي المفتوح والرعاية السويعاتية له يصير وجود هذا العدو واستمراره معّلقاً وأنّ كل الحديث الذي نسمعه بين الفينة والأخرى من قادة الكيان بأنّهم كيان مستّقل وهم أصحاب القرار أولاً وأخيراً ليس أكثر من كذبة ممجوجة ومناورة وكلاماً رغبوياً في أحسن الأحوال، فإسرائيل نشأت وترعرعت واستمّرت إلى يومنا هذا بفضل الغرب وأميركا ونقطة أول السطر.
نستنتج من هذه المسألة أنّ كل رهان على إبعاد إسرائيل عن أميركا هو رهان خائب اليوم – ربّما إلى حين تحوّل المجتمع الأميركي في العقد المقبل حين يتقدّم نفوذ (الجيل Z) ليصير مؤثراً في صناعة القرار -، فلو لم تكن إسرائيل لوجب إيجادها، كما قال الرئيس الأميركي جو بايدن وكل الرؤساء، إنّها أي إسرائيل جزء لا يتجزأ من هوية أنظمة الغرب وأميركا الإمبريالية.
رابع عشر؛ لقد أكّد لنا “طوفان الأقصى” وما تلاه أنّ الوضع الدولي بلا قيادة ومشرذمٌ ولا يمتلك أي طرف فيه القدرة الحاسمة لتوجيه الأحداث. إنه فعلاً وضعٌ انتقاليٌ، وبمقدار ما هو معقّد وخطر بمقدار ما يمكن أن يحمل الفرص. هذا الوضع الدولي يفقد القدرة إلى الوصول لأنصاف حلول كمقدّمة لتسويات معيّنة، فالصراع بلغ مستوى من التخّمر والحدّة والانكشاف فصار حل الدولتين مسألة مشككة وفيها نظر عند متبنيها السابقين.
في عالم اليوم، لا أحد يستطيع أن يُضمّد الجرح المفتوح ولا ضبطه وها هو يتوسّع ويمتّد ليصبح إقليمياً وربّما أكثر، وأصبح المشهد الدولي المقبل رهن من تكون له الغلبة، فالمؤسسات الدولية وغيرها أشبه بمؤسسات كرتونية لا حيلة لها ولا مكانة لها حتّى عند مؤسسيها؛ بالنسبة إليهم لم تعد تخدم أغراضهم.
ولمّا كان الأداء الوحشي الغربي الصهيوني بلغ مبلغاً، كأنّ أميركا تبشرنا بعالم القوّة الآتي من رحم هذه الحرب في مقابل عالم المعايير والأخلاق الذي يجب أن ينتج من هذه الحرب، لذلك تأخذ هذه الحرب بعدها الحضاري وتموقعها في جوهر الصراع التاريخي بين العدالة والظلم والمساواة والتمييز والحقيقة والوهم.
خامس عشر؛ برغم كل ما مارسته إسرائيل من بطش وتقتيل وإبادات لم تنجز إلا انجازات تكتية حتّى اللحظة وليس من طريق واضح لديها للإجابة عن سؤال اليوم التالي، أي كيف يتّم تحويل هذه النقاط التكتية إلى معطيات استراتيجية، إن بضمانات سياسية أو ضمانات أمنية، اللهم إلاّ إذا نجحت بالقضاء المبرم على خصومها وأعدائها، وهذا هذيان ومستحيل، فإلى اللحظة وبرغم التوحّش الإسرائيلي، لم تحّقق فعلاً أياً من أهدافها ولا تزال تسير بتعّنت وتصطدم بالوقائع على الطريق لبلوغ ولو المرحلة الأولى من أهدافها أي ضرب البنية العسكرية للمقاومة.. وها هي بعد عام لم تصل بعد لانهاء هذا الهدف الأوّل في غزّة، فماذا عن المقاومة في لبنان إذاً؟
ومن نواتج ما يحصل منذ ٧ تشرين الأول/أكتوبر أنّ أي صراع مستقبلي بين الغرب والشرق أو أي طرف آخر، سيكون المجتمع الإسلامي والعربي عموماً شريكاً في الثأر من أميركا وليس حيادياً بغضاً بها وليس حباً بالصين أو روسيا أو كوريا الشمالية وهذا سيكون له تداعيات هائلة في المستقبل على أميركا ونفوذها وقد ينفجر في لحظة غير معلومة بوجهها في منطقتنا في لحظة احتدام الصراع بين القوى الكبرى فيّهدد مصالحها المباشرة.
إن الجغرافيا الثقافية تبتعد عن أميركا واليوم تُحّقق أمراً كبيراً جداً لم يكن حتّى ليرد إلى الذهن العربي أو يتصوّر أحد حدوثه، لقد أصبح الكيان بكلّه مكشوفاً وساحة صراع مفتوحة والصواريخ تنهمر عليه بشكل روتيني والعالم صار يتعود على هذا الجديد (بالحقيقة هذه أشبه بمعجزة وصارت مراكزه الأمنية والعسكرية مُهددّة متى شاء عدّوه، أي المقاومة).
ويوماً بعد يوم، سيصير هذا الكيان مكلفاً جداً على مشّغليه بدل أن يتحمّل قسطاً من القيام بشؤونه. كما أنّ قدرات الجيش الإسرائيلي إلى تراجع لجهة الكفاءة والعديد، وإلا ماذا يعني أن خمس فرق تقف عاجزة عن البقاء ليلة واحدة في قرية من قرى الحدود في جنوب لبنان، برغم سياسة الأرض المحروقة لأشهر وبرغم صغر جغرافيا القتال؟
ومن المكاسب الكبرى هي استشعارنا كعرب أن العقل العربي ـ الاسلامي ولاّد وقادر أن يبدع ويُسجّل أهدافاً قاتلة في عدّوه وربّما يُطيح بعدوّه في لحظة تخطيط وحسبة دقيقة ويُراكم ويُطّور ولا ينثني أمام الاغتيالات حتّى لو طالت رموزه.
وأختم بالإشارة إلى مكسب كبير واستراتيجي وربّما أتى كنتيجة أكثر منه كهدف مباشر، فمعركة إسناد غزّة دلّت على نوع من العجز الأميركي في البحار ودعواه بجدارته في حماية الممرات المائية، بدليل وقوف الغرب عاجزاً أمام الشعب اليمني نصرة لفلسطين، فالقوّة الأميركية بنهاية المطاف محدودة عندما تخضع لاختبار مدروس ومخّطط له.. وشجاع.
وتبقى مسألة قابلة للنقاش أنه عندما تتمكن مقاومة في بلد من هذا المستوى من الصمود الأسطوري وتنجح في تثبيت سيادتها وكسر عدوها، فكيف سيكون الحال لو كنا أمام واقع “دولة مقاومة” ذات يوم على حدود فلسطين، هل ستستطيع إسرائيل التفكير في مواجهتها؟