في غزة الكرامة.. أبعد من الغريزة    

تُعتبر غريزة البقاء من أقوى الغرائز الإنسانيّة، كونها تُحفّز باقي الغرائز، كالتملك، شهية الطعام، تدارك المخاطر، صد أي تهديد يواجه الفرد أو الجماعة، وكل ذلك بهدف البقاء، مع الإشارة إلى أن ثمة غريزة أخرى لحفظ الذات وبالتالي البقاء، هي غريزة الهروب من المواقف التي تُشكّل خطرًا على الذات.

غريزة التملك هي أيضاً من الغرائز المُلازمة للإنسان. ولو قمنا بالبحث عن توظيف هذا المفهوم الغريزي (التملّك) وكيف ساد عبر التاريخ البشري وخصوصًا في ثقافة المجتمعات العربية نكاد لا نعثر عليه إلا في سياقه العاطفي.

في بعض الحالات تُعبّر غريزة التملك عن مرض نفسي يدفع بالفرد إلى الاستحواذ على كل ما يُعجب به؛ من أشياء وأشخاص، ونجد هذا النوع موجودًا بخاصة في العلاقات الزوجية والعاطفية، ومن مؤشراته محاولات الملاحقة والسيطرة وعزل الشريك العاطفي والالتصاق به وإصابة المُبتلي بالقلق عند الابتعاد عن كل ما يصبو إليه، كما لو أنه يواجه شعور “قلق الإنفصال الأولي”. والهدف الشخصي هو ملء جوف الفرد من تلك المشاعر المنبعثة من الآخر ولو كانت مشاعر افتراضية أو مشاعر من طرف واحد.

والتطرف في تلك الحالات السالفة يُعتبر حالة شاذة عن القاعدة الغريزية الأصلية. حالةٌ لا تشبه فطرة الإنسان الطبيعية التي تجعله يشعر بخطر لدى مواجهة أي محاولة لانتزاع ما يخصه أو يملكه، فما بالك بالأرض والوطن حيث تزداد مقاومة الفرد قوة وشراسة لمواجهة أي تهديد محتمل “بالفعل أم بالقوة”.. وبالتالي تحمّل كل أشكال العنف الموجّه ضده، والحالُ عند الغزييّن في غزة والضفة، لا بل عند كل أبناء فلسطين، يُعبّر عن ذلك.

هنا، لا بد من الإشارة إلى الغرائز الإنسانية وديناميتها، فالغرائز المُشار إليها عامة هي شكل من أشكال الطاقة الفيزيولوجية المُحوّلة، أي التي تربط الحاجات الجسمانية برغبات العقل، وهي العنصر الأساس داخل الشخصية، والقوة الدافعة والمُحرّكة لها والمُسوّقة للسلوك وبالتالي المُحدّدة لاتجاهه.

وبين غريزة حفظ الذات والبقاء وغريزة الهروب والإقتتال، ثمة علاقة وطيدة، ولذلك سعت المنظمات الحقوقية الدولية للتمييز بين ما هو اقتتال مشروع وآخر غير مشروع، ووضعت قوانين لاستخدام العنف من أجل استعادة ما هو حق في الملكية والدفاع عنه ووضعت مُحدّدات لكل قتال غير مشروع.

ما يحدث في فلسطين هو أبعد من فكرة التحكّم الغريزي الذي يدفعنا تارة إلى الهروب وتارة أخرى إلى المواجهة، إنما نحن هنا أمام الأرض وكرامة الإنسان التي انتهكت على أرضه. ولطالما أنيطت الأرض (بالأم) وكرامة الإنسان من كرامة أرضه وأمه

تاريخيًّا أيضًا، سعت المجتمعات، كما الأديان، وبوسائل عديدة، إلى ضبط حراك هذه الغرائز، وخصوصًا غريزة الاقتتال من أجل المُلكيّة؛ لتُوحّدها مع ما هو حق لنا، أو ما هو حق علينا.

بدوره، سعى الإنسان إلى توجيه مسار تلك الغرائز لحماية نفسه من تفلتها، ومن ثم توظيفها في كل ما هو نافع ومثمر بغية تطوير مسيرة حياته ومسايرة شروطها، وعليه، فقد طوّر الإنسان ـ كونه حامل الدماغ البشري ـ طرق الاستجابة لغرائزه، الأمر الذي ميّزه عن الحيوان بطبيعة الحال.

في المجال النفسي، انحسر تصنيف الغرائز باثنتين أساسيتين هما في صلب طبيعة البشر، أولاهما، غريزة الحياة وتصبو إلى كل ما هو خير للإنسان وتحضّره. ثانيتهما، غريزة الموت وتصبو إلى تدمير الذات.

ومع أن هدف الغرائز يبقى ثابتًا فقد يتخذ طرقًا مختلفة لتحقيق الهدف ذاته، حيث يمكن تحويل طاقتها إلى أشياء بديلة عن طريق أو آليات دفاعية ومنها عمليات التسامي أو التعالي، وهي عملية تحويلية من الهدف الأصلي إلى آخر يمكن تطبيقه واقعيًا، وهنا الشرح يطول.

إذاً، يشير العنصر المفاهيمي والواقعي للغرائز بأنها طاقة غير ثابتة، كما دوافع الإنسان حيث تتغيير بتغير الظروف التي تحيط بالإنسان، بينما في حالة العلاقة مع الأرض، وكرامة الإنسان التي تتحدر من هذه الأرض هي الأصل وهي العناصر الثابتة، الأمر الذي بيّنه أهل الأرض في غزة وفلسطين.

ولو تعمقنا أكثر في حركة الغرائز الإنسانية، لوجدنا أنّ أي فرد يتعرض لتهديد ما أو إلى خطر شديد، حتى لو كان الأمر يخص شيئًا يملكه، غريزيًا، بدل أن يقاتل بشراسة قد يكون هناك احتمالية خيار الهروب والخضوع للعنصر الأقوى من بين الخيارات الأخرى، وهو الخيار الأقل خسارة على عدة صعد. وما قد يدفعه للهروب هي عمليات الاستجابة الفيزيولوجية التي تجتاحه من العنصر المُهدّد (الشعور بالخوف يليه دقات قلب سريعة، التعرق، الارتجاف، الشعور بالإغماء..) والتي تبدأ بالظهور حالما يشعر الإنسان بأنه أمام احتمالية هلاك الذات.

يقودنا هذا التنظير إلى أن ما يحدث في فلسطين هو أبعد من فكرة التحكّم الغريزي الذي يدفعنا تارة إلى الهروب وتارة أخرى إلى المواجهة، إنما نحن هنا أمام الأرض وكرامة الإنسان التي انتهكت على أرضه. ولطالما أنيطت الأرض (بالأم) وكرامة الإنسان من كرامة أرضه وأمه.

إن ما يحدث على أرض فلسطين ولا سيما ظاهرة الصمود في مواجهة الموت على مسافة صفرية قد يصعب على البعض فهمه؛ فتمسك أهل غزة بغزة ورملها الذي يكاد لا يصلح للزرع في الأيام الطبيعية بسبب ملوحة الأرض وقربها من البحر، وبالرغم من ذلك رفض أهل غزة كل المغريات والبدائل التي قُدمت لهم سواء في سيناء أم في صحراء النقب، وبالرغم من حرب الإبادة والمجازر المفتوحة والتجويع، رفضوا الخضوع، شعارًا وممارسةً.

إقرأ على موقع 180  تأمّمت السويس.. ففاز لبنان بسرديته المصرفية!

ما كان أمام هذا الشعب إلا التمسك أكثر فأكثر بما يملك.. وقد فضّل المثول أمام الموت بدل التهجير والنيل من كرامته خارج وطنه؛ وكـأنني أراهم متمسكين بعبارة “لا.. لن نرحل”.

لا شك أن رأس مال الغزيين الأول هو الكرامة التي صارت سمة تُميّز فرسانها المقاومين، إذ أنهم تحملوا ما لا يحتمله بشري على وجه الأرض.

Print Friendly, PDF & Email
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  انهار "الفرعون" مع أول هتاف في "ميدان التحرير"!