الفنان أسامة بعلبكي: الرسمُ محاولةٌ لاختراع معنى لحياة بلا معنى!

لا يغيب أسامة بعلبكي عن المشهد الثقافي اللبناني. حاضرٌ في قلبه فناناً تشكيلياً، شاعراً وكاتباً، مهتما بالغناء والموسيقى؛ والأهم أنه يطارد الكتب النادرة من مكتبة إلى مكتبة. ندر أن يمر يوم لا يعود فيه أسامة إلى منزله في زقاق البلاط حاملاً كتاباً أو لوحة أو أسطوانة نادرة أو قطعة أثرية جميلة.

لا يغيب أسامة بعلبكي عن المشهد الثقافي، بدليل حضوره في معارض فردية وجماعية عديدة في لبنان والخارج. لا يُلزم نفسه بموضوعات تشكيلية. يترك لريشته ومزاجه أن يأخذاه حيث يجب أن ترتسم في نهاية النهار جدارية أو لوحة عادية، زيتية أو أكواريل أو أكريليك. 

آخر معرض فني تشكيلي فردي أقامه أسامة بعلبكي في “كاليري صالح بركات” في بيروت من 13 حزيران/يونيو لغاية 24 تموز/يوليو 2024. حمل هذا المعرض عنوان “نور داخلي” حيث تألقت 45 لوحة متفاوتة الأحجام، بتناغم ساحرٍ تفاعل معه الجمهور حضوراً واقتناء للوحات. وفي موازاة هذا المعرض، شارك أسامة بعلبكي من 26 تموز/يوليو الماضي وحتى الخامس عشر من أيلول/سبتمبر المقبل، في معرض ضمن أنشطة مهرجانات بيت الدين الإستثنائية لهذه السنة، بعدما قرّرت لجنة المهرجانات تعليق الأمسيات الفنية “تضامناً مع أبناء فلسطين وجنوب لبنان”، على حد تعبير رئيسة لجنة المهرجانات السيدة نورا جنبلاط التي افتتحت المعرض الذي ضم لوحات زيتية للفنان التشكيلي اللبناني الراحل عبد الحميد بعلبكي في البهو الداخلي للقصر ومعرضاً في الهواء الطلق للفنان زاد ملتقى بعنوان “لهيب” أو “الطريق إلى الشمس”. لمناسبة هذين المعرضين، كان هذا الحوار مع الفنان أسامة بعلبكي، نجل الفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي:

***

منى سكرية: لو أنك الآن مجرد زائر متفرج لمعرض أسامة بعلبكي الأخير في كاليري صالح بركات، ماذا كنت لتقول عمّا شاهدت في تلك اللوحات؟

أسامة بعلبكي: سأحاول الفصل بيني كمشاهد وكرسّام. هذه المشاهد نتاج معايشتي للمدينة وللطبيعة في لبنان على مدى سنوات. الرسم ما يزال بالنسبة لي عملية رصد حميم للعالم، أي ما زلت أرسم بالمفاعيل القديمة لجهة الحساسية تجاه الطبيعة بكل نغماتها، وهذه النغمات صادرة من الداخل، من عمق الأعماق.

-عنوان معرضك الأخير “نور داخلي”، ماذا يعني هذا العنوان؟

-نعم، هو العنوان الرسمي، ولكن الأعمال تشرح حالها وتعلن عن حالها بأنها رسالة من قلب الرسّام وعقله. رسالة يقظة لجمال المدينة، والمكان الذي نعيش فيه، على اعتبار أن كل تصوير لمشهد مدينيّ أو ريفي إنما هو انتماء لكل الجمالات المحيطة.

– هل أن إحساس الجمال الكامن فيك هو الذي يُظهر جماليات في المدينة بات من المتعارف أنها تعاني من ركود ومن بصمات غير مشجعة على الإبداع الجميل؟

-إنها عملية تبادلية. هناك مدينة مأزومة وجميلة ومُنتهكة، وأيضاً هناك رسّام قلق ومضطرب حيال هذه التحولات في المدينة. إنه نوع من العزاء المتبادل بين كيان الرسّام ومدينته. كأن هناك نوعاً من التآخي بين الطرفين.

– هل المشاهد مُتخيّلة أم واقعية؟

– الرسم عندي يصدر بشكل عفوي. صحيح أن المَشَاهد مستمدة من الواقع ولكن لا وجود لرقابة. إحساسي بالمكان وحدسي بالزمن يختلطان مع الريشة الانطباعية والتعبيرية التي تظهر كأنها تحتفل، وأحياناً ترتجف وتتوتر. خليط من سكينة ومن بحر متلاطم من الأحاسيس ومن الألوان تختلط مع بعضها البعض، وهذا سر الجاذبية التي يراها الناس في أعمالي. إنها عملية صراعية ومعقدة وجميلة في آن معاً.

– هل أنت شخص قلق؟

– نعم أنا شخص قلق، ولكن قلقي يُحرّك مشاعري وإرادتي. وهنا استشهد بمقولة للأديب الروسي تولستوي قرأتها في الصغر يقول فيها إن “الطمأنينة دناءة روحية”.

– القلق الذي عندك إيجابي وليس بمعنى الكآبة والاضطراب؟

– إنه قلق ينبع من الرغبة بالإحاطة بكل العالم والإشباع منه. إنه قلق تدفُق وفوران وليس قلقاً سلبياً وكسولاً.

– من يُتابع عناوين معارضك من “لوحات باللون الأسود”، إلى “طقوس العزلة”، و”ظلال الوحشة” إلخ، وصولاً إلى المعرض الحالي بعنوان “نور داخلي”.. تبدو وكأنك سلكت مساراً أوصلك إلى هذا النور، إلى الاهتداء من خلاله، فإلامَ اهتديت؟

– عندما يكون الزمن على هذا القدر من الاضطراب ويحيطه شيء من القتامة والأزمات وتدمير البيئة والطبيعة، وانهيار منظومة القيم، وعندما يصبح حجم التراجيديا مرتفعاً، يُصبح الواحد منّا مدفوعاً لاستكشاف مواطن للأمل والإحساس الإيجابي. أنا اشتغلت بفترة على المعاني السوداوية المحكومة بنبرة متصوفة وخافتة. وبعد أن رسمت الحرب والسيارات المحطمة والانسان في عزلته شعرت بإشباع من هذا الجو، ورغبة بالفرار من سلبية باتت مستنقعاً. أحياناً اذا كان الفعل إرادوي أي تعبير عن إرادة يصبح بلا إحساس خالص، ويصبح مجرد تهويل وتصعيد للتوتر وبمثابة إبطال للغة الفنية. ولأنني أنقاد لمشاعري، وأحب أن تكون الواقعية عندي نتاج فطرة وحدس فأنني اخترت أن أرسم ما أشعر به من دون تدخل فكري ومفاهيمي، ومن دون أي إسقاط على الزمن. وبعد نضوج التجربة الحياتية والتقدم بالعمر صارت “هالمشاعر التقيلة” يحل محلها مشاعر برغبة سبر أغوار الحياة أكتر من إعلان الحداد على الأشياء.

– واضح أن نورك الداخلي وحدسك ورؤيتك الذاتية تتفاعل مع ما ترسم، أكثر مما يحيط بنا من واقع بكل توحشه؟

– هذا من ضرورات الفن، بأن لا يكون عبارة عن نسخ للعالم. الفن يتيح أن يكون مساحة للتركيب الخيالي، ويصبح هنا نوعاً من العزاء. أنا أصف العالم في اللوحة داخل اللوحة، وهذه أعمال فيها تصرُّف، ولكنها ناتجة عن تنغيم داخلي مزوّد بالعواطف والأحاسيس.

– هل ابتعدت عن تجربة صوفية عشتها ذات مرة وانعكست برسوماتك، وأصبحت متحرراً من طقوسها؟

– مع فهم أوسع للعالم، وفهم أكبر لنسبية الحياة، والتطرفات الفردية التي كنا نقوم بها في عشرينيات العمر، لتحل مكانها نظرة حكيمة، يعني بالنظر الى أن العالم سيبقى كما هو وأنت ستبقى تمثل نفسك، يعني لا مفر من أن نرتاح وأن هذه الحياة نسبية تحكمها جوانب مجانية وشيء عدمي وأشياء خارج الإعتناق. عليك أن تبحر بطريقة ما في هذا البحر المتلاطم في الحياة مع تخفيض الإحساس بالعزلة، أو أن الناس عدوانيون تجاهك. في خضم الحياة وما ينتج بشكل عشوائي ومنظم لا مناص من أن يقف الفرد بوجه صخرة كبيرة ومتدحرجة ومن ثم يبقى واقفاً.

إقرأ على موقع 180    أنا حرة.. لكن بعد فوات الأوان!

– عندما تدخل إلى مرسمك، هل كأنك تدخل في طقوسك العبادية؟

– صحيح، الرسام الفردي الواقعي الذي يعمل من دون روابط اجتماعية ما يزال يعمل بشيء من الرهبنة التي سادت في قرون سابقة. عدة الرسّام المادية والخيالية والطقوسية موجودة في المرسم. المرسم هو أفضل بقعة مكانية يُمكن أن ألجأ إليها. حتى أنني أحياناً عندما أصاب بالذعر ألجأ إلى المرسم ومن دون تخطيط وأبدأ بالرسم. المرسم مساحة ذات طبيعة حميمية، والمرسم ببنائه الحجري صار بمثابة القشرة العضمية التي تحوي الخيال والعاطفة.

– أتخشى الذكاء الاصطناعي؟

– ليس كثيراً لأنني أتجاهل أخبار العالم كي أبقى أسير حياتي. هناك الكتير من الوعود أوالترقب في العالم وهذا يتعبني. أنا أعرف أن الحياة تحمل أشياء جسيمة وأشياء عظيمة ولذلك سنستقبلها بكل شجاعة الحياة. أما التلاعب بالطبيعة وبمقدرات الإنسان فأرى أنها ستخلق عدمية جديدة فارغة المضمون.

– في كلامك نثرات شعرية، كما في ضربات ريشتك، فهل أنك استبدلت الشاعر الكامن فيك بالرسّام؟

– أنا أحب الشعر وقراءة الشعر، وحاولت أن أكتبه، لكنني انتبهت أن طريقتي الشاعرية بالرسم سرقت مني الشاعر والرغبة بتنزيل الكلمات فرسمت بشاعرية، وبذلك حققت بضربة واحدة رسم وشعر وموسيقى.

– هل يوجد سوق للفن التشكيلي حالياً؟

– نشأت سوق عربية بعد 2003، وكنت أنا وزملاء شباب جزءاً من هذه الحركة، ولكن بعد كورونا وانفجار مرفأ بيروت وسلسلة من الأحداث العالمية حصل انكماش في السوق المحلي وصار “كتير مفركش”.

– هل تراجع حضور نقاد الفن التشكيلي؟

– تراجع مقارنة بما كان عليه في مطلع السبعينيات الماضية حيث كان الناقد الفني صاحب فكر ونظرية. كان سلطة. حالياً النقد يمارسه خبراء ولكن غابت اللغة النقدية. هناك صعود للنشاط الفني ومهنة القائمين على هذا السوق، أما الجانب الفكري النظري العميق فباتوا قلة هم المتمكنين منه.

– هل يترك غياب النقد الفني عالي المستوى تأثيره على حركة الفن التشكيلي؟

– الذي يؤثر هي الذائقة الجماعية. وبفترة من الفترات كانت العلاقة بين الفنان والناقد متوترة، بمعنى من الذي يريد أن يتسيّد على الآخر. نحن حالياً بحاجة إلى مؤرخي فن ودارسين وإلى تربية ذائقة فنية. بكل الأحوال إن الأفعال الخفيفة تبقى مفيدة لدورة الفن التشكيلي.

– هل تُصنّف نفسك إبن مدرسة فنية خاصة بك؟

– لا أعتقد. أنا خلاصة من مرجعيات فنية وقدرية وفلسفية. انا مستغرق في الرسم لدرجة أني أنسى أو أتناسى إلى أي مدرسة أنتمي. أنا أنتمي إلى ريشتي ومرسمي. إلى أشيائي الصغيرة. إلى الكتب والقصائد واللوحات. زمننا ليس زمن فتوحات فنية ضخمة. إنه زمن اختلاق حساسيات فرعية من أمور مرجعية. العالم الفني مترابط ويتناسل من بعضه فنياً ومادياً.

– هل تلمس تدني تربية الذائقة الفنية؟

– ألمس ذلك.هناك رغبة بشراء لوحات وغيرها لدى برجوازية لبنانية ناشئة، ولدى هذه الفئة رغبة الاندراج بمجموع مقتني الأعمال الفنية، لكن العين ما تزال غير مدربة وروح الاقتناء مستعجلة ولا تُدقق، وبالتالي يختلط الصالح بالطالح.

– هل يوجد حركة فنية تشكيلية ناشطة في لبنان؟

– الحركة التشكيلية مستمرة، وهناك أجيال جديدة فتحت العين على فكرة أن الرسم يمكن أن يكون مهنة. هناك توسع بالدائرة الاجتماعية للراغبين بالانضمام إلى مجموعة المهتمين بالفن التشكيلي. في لبنان حركة تشكيلية مستمرة وافتتاح كاليريات جديدة وهناك مدارس تُدرس الفن التشكيلي.

– ماذا يقول أسامة بعلبكي للزائر المتفرج على كل هذا الجمال في معارضك، وعلى هذا المستوى الفني البديع، إذ لا يمكننا مشاهدة اللوحة عن قرب. فالأبعاد المتنوعة فيها تزيد جماليتها من مسافة أبعد؟

– هذه الأعمال بروحها الانطباعية والتعبيرية تُقرأ من بعيد، ألوانها من بعيد تحقق نغمتها الموسيقية أكثر وغير المتضاربة بألوانها. الأعمال الكبيرة تحتاج إلى مسافة للرؤية، مع أنني رسمتها ضمن حيز جغرافي ضيّق. نفذتها ذهنياً، أي من خلال التدرب على نظرة العين بين ما أراه على مسافة متر أو مسافة أمتار.

لوحة للفنان الراحل عبد الحميد بعلبكي

– متعتك الأساس في المعرض أم في المرسم؟

– المتعة القصوى هي داخل المرسم. ومع دخولي مرحلة التكريس صار عندي ثقة أكبر، وتجارب إقامة معرض وراء معرض أصبحت مسألة طبيعية.

– ما هو تفسيركَ لهذا التكريم المفاجىء في بيت الدين للوحات والدك الراحل عبد الحميد بعلبكي وآخرين؟

– وظيفة المعرض هي أن يصحبنا في رحلة تهدف للتعرف على الطبيعة اللبنانية عبر أجيال ومسارات الفن التشكيلي المختلفة؛ رحلة قررت السيدة نورا جنبلاط أن تستهلها هذه السنة، بتحية خاصة للجنوب اللبناني الذي يعيش فصلاً من فصول جلجلته؛ بالتزامن مع “طوفان الأقصى”. وكما قالت السيد جنبلاط إن هذه الطبيعة الجنوبية “يحاولون تصويرها لنا يومياً كأنها بيئة للقتل والحرق والعدوان والهدم والدمار والمأسي، لكن لوحات الفنانين اللبنانيين تُقدّم لنا نموذج تنوع المشهد الطبيعي وأقاليمه المناخية المتفاوتة، برغم ضيق المساحة؛ نموذجٌ يشبه اللبنانيين بتعدّد أهوائهم وتناقض طبائعهم على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ومناطقهم، لكنه التنوع ضمن الوحدة، وهل من طبيعة في عالمنا العربي يُمكن أن تنافس الطبيعة اللبنانية الخلّابة”؟

– وآخر الكلام؟

– في هذه الأزمنة المظلمة على المستوى الأخلاقي يبقى الفن مطرحاً للنجاة، ومحاولة لاختراع معنى لحياة تبدو بلا معنى.

Print Friendly, PDF & Email
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  رئيس لبنان أميركي ـ إيراني.. ومن لاعبي "الإحتياط"؟