تكمن جذور الصراع في لبنان في الاختلافات بين اللبنانيين أنفسهم. هذا هو الأمر الأساسي. العوامل الخارجية تبقى ثانوية وهي مستمدة من الأولى.
تشبه التسوية اللبنانية المعادلة الرياضية المعقدة المتضمنة العديد من العناصر المجهولة، وهذا يعني أنه يجب حلها بشكل مشترك، والجمع بين كل عناصرها، وبالطبع، يجب أن يظل لبنان دولة واحدة، غير مجزأة، وذات سيادة.
كان يبدو هذا المنطق واضحاً ومقبولاً عند جميع اللبنانيين. على الأقل في كلماتهم. لكن محاوريَّ في المنطقة المسيحية كانوا يُخرجون على الفور حجتهم المضادة: “اللبنانيون يمكنهم أن يتفقوا في حال لم يتدخلوا”… من؟ بادئ ذي بدء، سوريا نفسها! بعد ذلك، كانت تتلى محاضرة طويلة مفادها أن السوريين ينظرون إلى لبنان باعتباره إرثهم، ولا يعترفون بحق لبنان في وجودٍ مستقل وسيادة حقيقية، وأنه إذا أراد الاتحاد السوفياتي تقديم مساهمته البنّاءة في السلام في لبنان، فعندئذ يجب عليه كبح ميول الهيمنة في دمشق.
تشبه التسوية اللبنانية المعادلة الرياضية المعقدة المتضمنة العديد من العناصر المجهولة
أعترف أن الموضوع السوري لم يكن بسيطاً على الإطلاق بالنسبة إليّ. من ناحية، تصرف السوريون كمحتلّين في لبنان، بشكل تقريبي وغير متجانس. كان يُصفى جسدياً من الساحة السياسية كل من يقف ضد خطط دمشق. لذلك، لم أقم بدور المحامي عن السياسة السورية في لبنان، ولم آخذ ذلك على عاتقي إطلاقاً، وقد أكدت على هذا الأمر باستمرار في المحادثات مع القادة المسيحيين.
لكنني كنت أقول لهم، بشكل حاسم، إنّ موقف سوريا عنصرٌ مهم في المعادلة اللبنانية، وأنه من دون مشاركة دمشق، أو في حال جرت الأمور ضد مصالح دمشق، فلن يمكن تحقيق تسوية سلمية في لبنان، سواء أراد المسيحيون الاعتراف بذلك أم لا.
ولكن، مع ذلك، فإن الحقيقة هي أن الوضع في لبنان لم يكن أمراً عابراً بالنسبة إلى سوريا، على الأقل من حيث مصالح أمنها القومي. ومن هذه النقطة بدأتُ نقاشاً ساخناً بالفعل، اتهمني خلاله شخصٌ ما بأنني خارج المنطق.
يقولون إن استقلال لبنان وسيادته ومصالح سوريا مفهومان غير متطابقين. كان من الضروري الرد من خلال التذكير بالتشابه مع العلاقات بين الاتحاد السوفياتي وفنلندا. رَويت للمسيحيين اللبنانيين كيف تحاربنا مع الفنلنديين مرتين في الثلاثينات والأربعينات لأن الاتحاد السوفياتي لم يكن مرتاحاً لأمنه على الحدود الشمالية. وقلتُ أيضاً إنه بمجرد أن تلقينا ضمانات أمنية، اختفت كل المشاكل في العلاقات السوفياتية- الفنلندية من تلقاء نفسها، وأصبح البلدان جارين جيدين.
كلما تعمّقت في صفوف الزعماء المسيحيين، صرت أرى تناقضاً خطيراً في مواقفهم. رأى بعضهم، واعترف، بأنه لا يمكن العودة إلى نظام السلطة السابق، وأنه يجب التوصل الى تسوية مع المسلمين على قاعدة الاحترام المتبادل. البعض الآخر كان يرى أن أي تنازل صغير سوف يتحوّل في ما بعد إلى انهيار للنموذج المتصلب لكل المواقف، وبالتالي يجب الإبقاء على موقفنا حتى النهاية. منهم من اعتبر أن ثمة ضرورة للحفاظ على الانتماء العربي للبنان، ولكن في المقابل كان سياسيون كثرٌ يقترحون التوجه نحو التحالف مع إسرائيل، وبناء السياسة الداخلية في لبنان على صورة الدولة اليهودية وشبهها، ومن خلال الهيمنة المطلقة للمسيحيين على جميع الطوائف الدينية الأخرى في البلاد.
من خلال هذه المجموعة من الآراء والمواقف، وضعتُ رسماً بيانياً لعلاقاتي مع المسيحيين. أسهل المحادثات كان مع سليمان فرنجية وأفراد من عائلته، أو بالأحرى العشيرة: ابنه روبير، وابنته سونيا، وصهره عبد الله الراسي. كانوا مؤيدين جدّيين للخيار العربي للبنان وتمسكوا تقليدياً بتأييد الخط السوري. انضم إلى هذه العشيرة في الواقع زعماء مسيحيون آخرون – ينحدرون من شمال لبنان – أحدهم رينيه معوّض، عضو البرلمان، الذي انتُخب رئيساً للبلاد، لكنه استشهد بشكل مأساوي في 22 تشرين الثاني العام 1988.
كان بطريرك الكنيسة المارونية بطرس صفير، شخصاً ذا قيمة كبيرة، وكان لديه موقف واضح وفعّال لتحقيق المصالحة الوطنية وإخراج لبنان من حالة حرب الأشقاء… كان التحدث إليه سهلاً وبسيطاً.
جورج سعادة، الأمين العام لـ”حزب الكتائب”، فاجأني بكل سرور، لأننا تحدثنا عن أشياء كثيرة، وكنا نفهم بعضنا البعض: الحرب لن تحل المشاكل التي نشأت بين اللبنانيين، للمسلمين أيضاً الحق في اعتبار لبنان وطناً لهم، نحن نعيش معاً ونتفق معهم. لحسن الحظ، لم يكن جورج سعادة استثناءً. لقد اتخذ كثيرون في المنطقة المسيحية الموقف ذاته – سواء أولئك المنتمين إلى “الكتائب” أو الذين لم تكن لهم أية علاقة رسمية بهذا الحزب، ولكنهم كانوا معه في نفس الخط الإيديولوجي.
أود أن أشير إلى أنني أصبحت صديقاً لجوزيف الهاشم، الذي كان مسؤولًا عن العمل الإعلامي في “الكتائب”.
كذلك كنت اعتبر داني شمعون صديقاً، وهو الابن الأصغر للرئيس اللبناني الأسبق في الخمسينيات، كميل شمعون. غالباً ما كنت أزور داني في منزله في الأشرفية، وكنا نتواصل في جو مريح. بحلول وقت الغداء، كان والده يزوره في شقته عندما كان لا يزال بإمكانه التنقل، وفي بعض الأحيان كانت تحضر إنغريد، زوجة داني، وفي أحد المرات حضر صبيان رائعان، إبنا داني، ليريهم سفير الاتحاد السوفياتي “الكبير والرهيب”.
في الوقت ذاته، كان داني أحد أولئك الذين ساندوا التوجه المؤيد لإسرائيل في لبنان، وحافظ على اتصال وثيق مع الإسرائيليين. عرفتُ ذلك بشكل مباشر: من بين هوايات داني جمع الأسلحة العسكرية، وقد أظهر لي بطريقة أو بأخرى مجموعته، ومن بين المعروضات التي عُلّقت ووضعت في غرفة خاصة، رأيت رشاش “عوزي” إسرائيلي بشكل هدية ضمن لوح برونزي عليه عبارات باللغة الإنكليزية، يعرب فيها عقيد ما عن صداقته المخلصة لداني.
كانت الاتصالات مع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع صعبة بالنسبة إليّ. كانت سمعته في ذلك الوقت تدفع أي دبلوماسي، وخاصة سفير الاتحاد السوفيتي، إلى الابتعاد عنه. لكن مستشاره السياسي كريم بقرادوني كان معروفاً لي، وهو رجل بدأت أحترمه منذ السبعينيات. الأهم من ذلك، أخبرني صديقي المقرّب جوزيف أبو شرف الكثير عن التطور الداخلي لسمير من قائد ميداني إلى سياسي.
في البداية، أحدثت الاتصالات العامة الأولى مع سمير جعجع الكثير من الضجيج وتسببت في انتقادات لي من السوريين، وبشكل خاص التقدميين اللبنانيين، لكني ما زلت أعتقد أنني تصرفت بشكل صحيح. على الرغم من أنه في وقت لاحق، بعد انتهاء النزاع، نال جعجع ثلاثة أحكام بالسجن المؤبد بسبب جرائم القتل التي أدين فيها- طوني فرنجية نجل سليمان فرنجية في حزيران عام 1978، ورشيد كرامي في حزيران عام 1987، وداني شمعون في تشرين الأول عام 1990 – سأحاول اصدار بعض الأحكام حول شخصية سمير جعجع في سياق السرد.
حاول أمين الجميّل توريط الاتحاد السوفياتي في مؤامراته الصغيرة ضد سوريا
وفي الوقت ذاته، لم تكن لديّ أية علاقة مع الرئيس اللبناني آنذاك أمين الجميل. لقد شعرت بخيبة أمل منه، لأنه كان يحاول توريط الاتحاد السوفياتي في مؤامراته الصغيرة ضد سوريا. شعرتُ بخيبة أمل تجاهه، لأن آراءه حول الوضع في لبنان لم تتغير بأي حال من الأحوال مقارنة بفترة اتصالنا في العام 1976. في الوقت نفسه، يمكنني أن أقول بشكل لا لبس فيه – أن أمين أراد أن يكون صديقاً لي، وكان يبحث عن ذلك عبر طرق مباشرة وعبر أشخاص من بيئته – رجل الأعمال سامي مارون، رئيس المكتب الثاني سيمون قسيس، وحتى من خلال جوزيف أبو شرف. لكن شيئاً ما في أمين صدّني: لم أشعر عنده بصدق. اتضح أنني كنت على حق. لست الوحيد الذي فقد الثقة في أمين.
عندما انتهت ولايته الرئاسية، كان لبنان كلّه، مسيحياً ومسلماً، ضده. غادر أمين الجميل القصر الرئاسي مباشرة إلى باريس، ورفض لعب أي دور يذكر في أبسط الأمور في الأحداث اللاحقة في البلاد. لكنه ترك فوضى رهيبة حقا!