منذر جابر.. وسيرة العامليين من “لبنان الكبير” إلى جمهورية 1943

يكفيّ أن تكون قامة عاملية متخصصة إسمها مُنذر جابر تحت أيّ عنوان يتصل بجبل عامل ليُشكّل عنوان ثقةً للقارئ المُهتم بأحوال الجنوب اللبناني، فهو الباحث والأكاديميّ والمُنقّب والمُؤرخ منذ ما قبل "هبّة" التأريخ لجبل عامل ما بعد نهاية سبعينيات القرن الماضي، التاريخ الذي جعل الجنوب اللبناني محطَ أنظار الإعلامَين المحليّ والعالميّ.

كتاب “مسائل في أحوال الجنوب اللبناني- جبل عامل” للدكتور منذر جابر ، هو كتابٌ غنيٌّ يتمحور حول جبل عَامل، ويتألف من خمسة عشر فصلاً (دراسة)، فضلاً عن مقدمة للشاعر عباس بيضون يقول فيها إن منذر محمود جابر جمع بين كتابة التاريخ ونقد نماذجه، أضف إلى نظرته إلى تاريخ الطوائف اللبنانية “التي صاغت أحياناً أساطير تاريخية أو نسجت على غرار أساطير، فمحاولاته (جابر) ليست السعي إلى وضع تاريخ شيعي فحسب بل رؤيته في سياق تاريخ لبناني وإدماجه فيه، على طريق وضع تاريخ راهن للبنان كله”.

جبل عامل ولبنان الكبير

نحنُ فعلياً أمام خمسة عشر بحثًا (فصلاً)، وكلُّ بحث يستحق أن يُؤسَّس عليه كتابٌ مستقلٌ يُغنّي المُهتمين والمتعطشين للتبحر في كل ما يتصل بأحوال جبل عَامل. ففي الفصل الخامس المُعنون بـ”قراءة في مواقف جبل عامل من لبنان الكبير”، وهو من أهم الفصول، كونه يُعالج مسألة انضمام جبل عَامل إلى لبنان الكبير في العام 1920، يتبين لنا أن العَامليين اختاروا أن يكونوا دولة مُستقلة تتمتع بإدارة مستقلة نتيجة اللامركزية السياسية، لكن الإرادة الغربيّة المُتمثلّة بفرنسا وبريطانيا عملت على ضمّ جبل عَامل إلى دولة لبنان الكبير مع اشتراط العامليين عدم تغيير الحدود الفلسطينية-اللبنانية، وعدم سحب بعض القرى العامليّة، فصار جبل عَامل “الجنوب” منذ ذاكَ الوقت.

وما لفتَ نظريّ قول الباحث عن تبدّل أحْوَال السكان من “العامليّين” إلى “الجنوبيّين” في العام 1920 إن “الدخول في هوية عامليّة، تحدّدت في ثقافتهم منذ مئات السنين والدخول في هويّة لبنانية وليدة، أيّ باختصار “نزوحهم” عامليين من جبل عامل وإقامتهم “جنوبيين” في الجمهورية اللبنانية، هو مخاض استلزم “لتصديق” وقوعَاته الثقافيّة على الأقل، مرحلة من إعلان لبنان كبيرًا في العام 1920 إلى إعلانه مُستقلّا في العام 1943″.

وحسب مجلة “الحقيقة” أنّه في أواخر العام 1918 طلب رؤساء وعقلاء جبل عَامل “المُحافظة على بلادهم وعدم انضمامها إلى بقعة أخرى، بل يرغبون في توسيعها، لكن مع مجيء “لجنة (كينغ- كراين) تغيّرت الوجهة”.

ولعل رفض جزء من العامليين الانضمام إلى لبنان الكبير مرّدُه إلى ما نقله المستشرق جاك بيرك من أنّ فكرة الكيان اللبناني هي “نوعٌ مِنَ التَّأويل الإقليمي لولاء الموارنة التقليدي الفرنسا. فقد حرصت فرنسا عبر هذا الكيان على إعطاء العصبيّة المارونيّة المُتحالفة معها منذ قرون مجالًا للتعبير السياسي عن ذاتها في القرن العشرين”.

ويضيف جابر “غير أن انبثاق الشيعة بذاتيتها الطائفيّة لم تظهر بوادره إلا في عهد الانتداب بالاقرار للطوائف التاريخيّة بكياناتها التقليديّة”. وكان “الشيخ أحمد عارف الزين من أوائل من طالب بحقوق الطائفة”.

والملفت للإنتباه هو تناول “الثنائية الشيعية” من منظور تاريخي، حيث ينقل مُنذر جابر عن الشيخ سليمان ظاهر (1873 – 1960) في كتابه “المفكرات” الآتي: “علينا الآن أن نقوم بعمل مهّم جدًا، وهو أن نجمع كلمة الطائفة حتّى تصبح كتلة واحدة، وأن نتحلّى بالحكمة والدرايّة، ونعمل على الاتحاد والإتفاق مع جيراننا من سائر الطوائف، وبخاصّة أن نوّفق ما بين كامل بك الأسعد ورضا بك الصلح”. وهكذا تكون قد وُلدت “الديموقراطيّة التوافقيّة” التي يُطالب بها البعض ويمقتها البعض الآخر حالياً.

ولم يكن يُخيف أهل جبل عامل سوى شطر جبل عَامل إلى شطرين، قسم يُضاف إلى لبنان الكبير وقسم إلى فلسطين المُحتلة حيث تسيطر بريطانيا عليه، من هنا كان تحرّك يوسف الزين مع الفرنسيين بارزًا ومباركًا من العامليين من خلال لوائح الاحتجاج التي سعى بها لدى الفرنسيين ولم تنتهِ هذه الهواجس إلاّ في العام 1927 حيث رفض كلّ من مجلسيّ الشيوخ والنواب الفرنسيين أيّ تغيير للحدود اللبنانيّة برغم عدة محاولات ودعم من قبل الجنرال إدوارد سبيرز (1886-1974( الذي كان يُؤيد سلخ بعض القرى والأراضي العامليّة لمصلحة البريطانيين في فلسطين المُحتلة.

فبعد أن طَالب العَامليون بالانضمام إلى سوريا الكُبرى بقيادة الشريف حسين في مؤتمر وادي الحجير 1920 عادوا ووافقوا على الانضمام إلى دولة لبنان الكبير، مقابل موقف سلبي للمسلمين السنّة الذين ظلّوا يعتبرون أنفسهم أبناء سوريا الكبرى، “كان للسُنّة في لبنان موقفًا سياسيًا مِنْ كيان مُصطنع، والسُنّة رغم اعترافهم بخصوصيّة جبل لبنان، إلا أنّهم اعتبروا كلّ لبنان مع الأراضي المُلحقة به جزءًا لا يتجزّأ من الأراضيّ السوريّة ومِنَ العالم العربي. هذا، في الوقت الذي كانت فيه مُهمّة الشيعة، محاولة إيجاد “وَسْعَة معترف بها لهم. ومعترف بهم طرفًا شرعيًا في ترسيمة لبنان الكبير. وهذه “الوَسْعَة” لم تكن تتعدّى حصصًا معقولة في الوظائف، وفي أمور ضرائبيّة وأمورٍ حياتيّة”.

الحياة الثقافيّة في عَاملة

يُعيد منذر جابر في كتابه نشر بحث سابق باللغة الفرنسية تحت عنوان؛ “الحركة الفكرية والأدبيّة في جبل عَامل في العصرين المملوكي والعثماني خلال أربعة قرون من ثقافة الحريّة في لبنان”. وما يلفت النظر هو جذور فكرة (ولاية الفقيه)، التي بحسب جابر، ماتت لثلاثة قرون مع انتهاء عهد الإمامة، فتم اختراع مصطلح (نائب الإمام)، وتحريك الروح بمنهجيّة (الخُمُسْ)، الذي جعل ولعقود طويلة العلماء والحوزات الدينيّة والمراجع الدينيّة مُستقلين ماديًّا وبعيدين عن سلطة الحاكم وحاشيته الأموّية والعباسيّة وكلّ من تبعهم طيلة قرون من عثمانيين ومماليك وأنظمة حكم (ظالمة)..

إقرأ على موقع 180  إستشهاد نزار بنات.. تبدل قواعد الإشتباك مع "السلطة"

كما تناول الباحث الحوار السنّي- الشيعي عبر مرجعين عَامليّين مُهمين، هما السيد محسن الأمين والسيد عبدالحسين شرف الدين، إضافة إلى دور الشيخ محمد جواد مغنيّة، المُصلح والمُجدد الذي رفع حرمة العمل في دوائر الدولة الرسمية، إضافة إلى المؤرخ محمد تقي الفقيه الذي كان من أوائل الباحثين في تاريخ عَاملة، ومحمد جابر آل صفا صاحب كتاب “تاريخ جبل عَامل”، ومؤسس مجلة “العرفان” الشيخ علي الزين. ولم ينسَ مُنذر جابر دور الشعراء في نشر ثقافة العامليّين، إذ يقول إنّ “النتاج الفكريّ العامليّ حتى نهايات القرن التاسع عشر كان معقودًا للعلماء العامليّين المُهاجرين في كلّ من العراق وإيران” لدرجة أنّ “عدد العلماء العامليين المدفونين خارج جبل عامل بدءًا من القرن الخامس عشر للميلاد وحتى الثلث الأول من القرن العشرين بلغ 358 عَالمًا”!.

وأبرز الباحث مُنذر جابر لنا أن الحسينيّة جاءت كتطوّر طبيعيّ للحَراك السياسيّ في بدايات القرن العشرين، والذي تُوّج بثورات اجتاحت كلاً من العراق وسوريا وفلسطين في ظلّ انتشار الأفكار القوميّة بجناحيها القومي العربي والسوري القومي الاجتماعي، اضافة إلى الفكر اليساري، فهذه الحسينية هي مكان الاجتماع والأنشطة الثقافيّة والسياسيّة والوطنيّة. وبرغم أنّ الحسينيّة ناشئة من إسم الحُسين بن علي بن أبي طالب إلا أنّ اليسار الجنوبي ساهم بشكل كبير في إقامة الحُسينيّات في معظم القرى والبلدات الجنوبيّة إلى أن وصل التيار الدينيّ، مع خروج حركة أمل ثم حزب الله إلى الضوء، فباتت الحسينية مكانًا للنشاطات الدينيّة والمُناسبات الحزينة، ولم تعد مَلقى المُفكرين والمُثقفين والناشطين.

(*) “مسائل في أحوال الجنوب اللبناني – جبل عامل” للدكتور منذر محمود جابر- مكتبة أنطوان – طبعة أولى 2023.

Print Friendly, PDF & Email
سلوى فاضل

صحفية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  محمد حسن الأمين.. عالم الدين لا رجل الدين