أهالي منطقة الأوزاعي المحسوبون بغالبيتهم على مكون اجتماعي لبناني محدد، رفعوا هذه اللافتة تعبيراً عن شُكرهم لمواطنيهم اللبنانيين في المناطق المذكورة أعلاه، جرّاء وقفتهم الوطنية مع أهالي الشهداء والجرحى الذين تعرّضوا لعدوان اسرائيلي غير مسبوق يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، أقل ما يُمكن وصفه بحرب الإبادة، فاصطفت طوابير المتبرعين بالدماء والأموال من أهالي بيروت وإقليم الخروب وصيدا وطرابلس هاتفين قائلين: لكم دماؤنا يا أهالي الضاحية والجنوب والبقاع.
في منطقة الأشرفية زهرة بيروت ولبنان، اصطف الأهالي في طوابير مماثلة، مُردّدين ما قاله أهالي الأوزاعي “الدم ما بيصير مي”، وأضاف جمع كثير من أهالي الأشرفية، من بينهم “جيش الرب” قائلين عن المصاب الجلل الذي ضرب نصف لبنان “الجرحى أبناء وطننا، قد نختلف في السياسة، ولكن هؤلاء الجرحى إخوتنا بالدم ونتبرع بدمائنا لشفائهم”.
في بلدة دير الأحمر، يخرج كاهن تشع من عيونه نور السيد المسيح وتخرج من بين شفاهه نصوص من الإنجيل ويقول “ها أنا أعلن من دير الأحمر أن البلدة تفتح قلبها وبيوتها ومستشفاها لتقف إلى جانب إخوانها في الوطنية في البقاع والضاحية والجنوب”.
وأما في الشمال وجبل لبنان، فقد كانت مشاهد المتبرعين بدمائهم، وما يُنقل بالشرائط المصورة، أشبه بيوم الحشر، ففي بلدات ومدن ومناطق المنية وحلبا ووادي خالد وطرابلس وزغرتا والكورة وجبيل وكسروان والشوف تجمهر الآلاف من المتبرعين بالدم واختصرهم مشهد واحد بقول أحدهم “دمنا واحد”.
لا ضرورة للمرور على مزيد من المشاهد التي أبرزتها لحظة شيوع تفاصيل العدوان الإسرائيلي وما نجم عنه في يومي الثلاثاء والأربعاء الأسودين، إنما ما يجب الوقوف عنده أن المشاعر الوطنية اللبنانية التي ظهرت تعبيراتها الصادقة، بعفوية وتلقائية وأفعال تضامنية، هي مقيمة في النفوس والسلوك العام، وما يناقض ذلك في مفاصل ومناخات معينة ومحددة، ليس إلا وليد سياسة شوهاء يمتهنها بعض أهل السياسة لمآرب وأغراض في نفس يعقوب، أو في أنفس اليعاقبة.
تقدمت لحظتان، فرصتان، نعمتان، أولاها بعد تحرير معظم الأراضي اللبنانية من الإحتلال الإسرائيلي عام 2000، وثانيتها بعد عدوان تموز/يوليو 2006، لكن من المحزن، أن الهدر بالفرص عاد ليُشكل أساس السياسة، فبعض من أهل الأخيرة، أخذه الظن بالإثم، إلى أن يقرأ في طرد الإحتلال أو في إخفاقه مقدمة لإستقواء طرف على أطراف، فضاعت الفرصة وتاهت النعمة
هل تلك اللحظة فريدة ووحيدة؟
أبداً، ولا مرة كانت المشاعر الوطنية اللبنانية عرضة للقياس والإمتحان، خلال المئة سنة الأخيرة، والمقصود بعد إعلان دولة لبنان الكبير، وهي الدولة اللبنانية الثالثة في التاريخ بعد دولتي مدينة صور وفخر الدين المعني، وكلتاهما بسطت نفوذها على الجغرافيا اللبنانية الحالية وأكثر، إنما دار الخلاف حول كيفية إدارة لبنان الحديث ودوره وموقعه السياسي في الإقليم والعالم.
وعلى ذلك، لم يتصلب العروبيون الآتون من فضاء “الثورة العربية الكبرى” بمواقفهم حيال الولادة الثالثة للبنان عام 1920، وإنما تصوب اعتراضهم على “الإدارة الفرنسية” للبنان وتفريقها بين “لبناني صميم” و”لبناني مُلحق” فضلاً عن مشروع استتباعها للدولة الناشئة، وحين حسم الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح الإتجاه العام للدولة اللبنانية، انخرط العروبيون بجلهم وكلهم، في الهياكل والمؤسسات الوطنية تعبيراً عن قناعاتهم بهوية الدولة، وأقصى ما راحوا يفعلونه تمحور حول مطالبتهم بالإصلاح السياسي والمساواة والعدالة الإجتماعية.
مع الرئيس كميل شمعون، لم تتحول الهوية الوطنية اللبنانية إلى مادة إشكالية برغم أزمة عام 1958، ومع الرئيس فؤاد شهاب وبعده الرئيسان شارل حلو وسليمان فرنجية، غدت الهوية اللبنانية مجال اعتزاز وافتخار قلّ نظيرها بين دول المحيط والعالم الثالث بل بين دول العالم الثاني.
وقعت الحرب، و”توحشن” أهل السياسة، وجرى ما جرى، لكن اللبنانيين لم يفقدوا إيمانهم بوطنهم ولم يذهب بهم الشك بهويتهم الوطنية، والحديث هنا عن الناس، عن الغلابة، عن الأكثرية الصامتة كما كان يحلو للرئيس صائب سلام أن يصف غالبية اللبنانيين الكارهين للحرب والنابذين لها.
تلك الأكثرية الصامتة، ما أن ضرب الخرس (الإخراس قد يكون أصح) فوهات البنادق والمدافع إثر “اتفاقية الطائف” عام 1990 وما تلاها من إعادة توحيد بيروت وإسقاط مشروع “البيروتين”، حتى خرجت من الأشرفية والصيفي وما يجاورها إلى ساحة البرج، ومن البسطة ورأس النبع والخندق الغميق وما بعدها، إلى الساحة نفسها، ومن الشياح إلى عين الرمانة وبالعكس، مشاهد لا تُنسى في يوم الوحدة والتوحيد ذاك؛ لبنانيو الأكثرية الصامتة والكاسحة يقبل بعضهم بعضاً، يعانق واحدهم الآخر، يسأل مارون عن رفيق عمره عبد الرحمن في منطقة النويري، ويسأل علي عن أحوال أحفاد جاره أبي إدوار في برج حمود، غنّت الأكثرية الصامتة طويلاً في ذلك اليوم حتى قيل إن الفرح هو الجنون نفسه.
للأسف، آنذاك، تجاهل أغلب أهل السياسة تلك المشاعر الوطنية الجارفة، لم يبنوا عليها، لم يؤسسوا على عواطف القلوب ولا على أفكار العقول المتمسكة بالهوية الجامعة، فالغريزة والعزف على شرايينها، في أكثر الأحيان تشكل “الذخيرة الإستراتيجية” المخبوءة عند غالبية السياسيين في هذا الشرق ومنه لبنان المنكوب.
بعد تلك اللحظة التاريخية الوطنية في أوائل التسعينيات، تقدمت لحظتان، فرصتان، نعمتان، أولاها بعد تحرير معظم الأراضي اللبنانية من الإحتلال الإسرائيلي عام 2000، وثانيتها بعد عدوان تموز/يوليو 2006، وفي اللحظتين الفرصتين – النعمتين، علت المشاعر الوطنية اللبنانية إلى ما فوق ذروتها، لكن من المحزن، أن الهدر بالفرص عاد ليُشكل أساس السياسة، فبعض من أهل الأخيرة، أخذه الظن بالإثم، إلى أن يقرأ في طرد الإحتلال أو في إخفاقه مقدمة لإستقواء طرف على أطراف، فضاعت الفرصة وتاهت النعمة.
الأمر نفسه ينطبق على المشاعر الوطنية العالية التي ظهرت عقب استشهاد الرئيس رفيق الحريري، إذ أن كل لبناني شعر بأن الرئيس الشهيد خرج من بيته مسجّى، وبدل أن يصار إلى التنادي لإدارة وطنية توافقية للبلاد لتجاوز المرحلة الخطيرة والعصيبة، جرى استحضار مصطلح “العزل” وتصويب الإتهام نحو مكون سياسي معروف، فتراكم الإستقطاب وشاع التمذهب والتطييف بأبشع صوره حتى غدا لبنان “لبنانات”.
وكان من الطبيعي أن تنتج “اللبنانات” فساداً عاماً واهتراءً شاملاً، فعصف بها الإفلاس ودهمها الخراب عام 2019، فانتفض اللبنانيون انتفاضة نظيفة في أيامهم الأولى الحلوة، فرابطوا حول خطاب وطني واحد، وترابطوا تحت علم واحد، وتجمعوا حول النشيد الوطني الواحد واجتمعوا حول الهوية الوطنية الواحدة، كان ذلك في الأيام الأوائل، ثم دبّ بعض أهل السياسة عبثهم وإثمهم، فبرزت أقذع الشتائم، ثم نُودي بالقرار 1559، ثم قيل “السلاح أساس الفساد” إلى أن قالت إحداهن مؤخراً إن 70 ملياراً من دولارات الدولة وودائع اللبنانيين جرى إنفاقها على الأنفاق في جنوبي لبنان، واعجباه من “أهل التغيير”!
الأمثلة نفسها، المرتبطة برسوخ الهوية الوطنية اللبنانية، ظهرت بتجلياتها التلقائية عقب الإنفجار الكارثي وشبه النووي في مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020، فاللبنانيون جميعا، بكوا مرفأهم ورمز ازدهارهم في الزمن الجميل وأحد أعرق المرافىء في التاريخ، لكن ما العمل حيال بعض أهل السياسة حين ذهبوا إلى “التصويب” والإتهام ونسج الأساطير حول أسباب الإنفجار، متناسين ومتجاهلين أن “نيترات الأمونيوم” استوطنت عنابر المرفأ منذ أواخر عام 2013 لتنفجر بعد سبع سنوات جراء الإهمال المتراكم وغياب الحسيب والرقيب.
والآن.. ماذا؟
من جديد تتصدر الأكثرية الصامتة المشهد العام، معلنة وطنيتها، متمسكة بهويتها اللبنانية، مؤكدة الدم اللبناني الواحد، متجاوزة الطوائف والمذاهب والحواجز، قائلة قد نختلف في الداخل ولكن الخلاف ليس على طريقة من يقول إن الأشرفية لا تشبه الضاحية، أو أن بين الضاحية والطريق الجديدة صحراء قاحلة عمرها ألف وأربعمئة عام.
“الدم ما بيصير مي”، هكذا قالت الأشرفية.
“الدم ما بيصير مي”، هكذا قالت الطريق الجديدة.. وهكذا قالت الأكثرية الصامتة في كل لبنان.
أكثر من ذلك، قالت هذه الأكثرية الصامتة إن هذه الحالة الوطنية العابرة لكل المناطق اللبنانية، يمكن الإستثمار فيها لإجراء مصالحات وطنية كبرى والتأسيس عليها للذهاب نحو إصلاحات واسعة تعيد بناء الدولة وتمهد لقيامة لبنان من جديد.
أخيراً؛ تلك الحالة الوطنية ومشاهدها المفرحات الباكيات الآتيات من كل لبنان كأنها متظللة بألحان الأخوين رحباني ومستحضرة مع فيروز هذه الأغنية الوطنية الجامعة:
بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك
سألوني شو صاير ببلد العيد
مزروعة ع الداير نار وبواريد
قلتلن بلدنا عم يخلق جديد
لبنان الكرامة والشعب العنيد.