

يتعاظم الدور الإسرائيلي في الإقليم، ويتقاطع مع مشاريع دولية وإقليمية كبرى تهدف إلى إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط وفق أنماط تضمن تفوّقاً دائماً لإسرائيل على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية لعقود من الزمن. وفي قلب هذا المشروع تقف “دول الطوق” (لبنان وسوريا والأردن ومصر) بوصفها ساحة مواجهات وأحياناً تسويات. من هنا، نطرح في هذا المقال سؤالاً محورياً: ما الذي تريده إسرائيل فعلياً من لبنان وسوريا اليوم؟ وهل تغيّرت أدواتها واستراتيجياتها أم أنها تُعيد تدوير مشاريع قديمة ولكن بعباءة جديدة؟
لا بد من تناول الأبعاد التاريخية للمشروع الإسرائيلي تجاه لبنان وسوريا والمشرق العربي، مع التركيز على مساريْن أساسييْن شكّلا جوهر هذا المشروع منذ خمسينيات القرن الماضي: مشروع التفتيت والتقسيم من جهة، ومشروع التفاوض والتطبيع المشروط من جهة ثانية. كما من المفيد الإضاءة على خلفيات هذه المشاريع ومآلاتها، وصولاً إلى السؤال: إذا كانت إسرائيل تعرف ماذا تريد، فهل نحن نعرف فعلاً ما نريد؟ وهل نمتلك رؤية موحدة واستراتيجية وطنية فعّالة للمواجهة والحماية؟
أولاً؛ خلفية تاريخية للمشروع
منذ إعلان قيامها عام 1948، لم تنظر إسرائيل إلى محيطها العربي بنظرة إيجابية، بل كانت تسعى لتفكيك هذا المحيط وتحويله إلى بيئة متناحرة، تستمد إسرائيل منها شرعية وجودها كـ”دولة متقدمة وديموقراطية وسطٍ بيئة متخلّفة ومتصارعة”. منذ خمسينيات القرن الماضي، طرحت النخب الإسرائيلية تصورات حول ضرورة تقسيم دول الطوق، وخصوصاً لبنان وسوريا، إلى دويلات مذهبية وعرقية، تفتقد للتماسك الوطني وتصبح عاجزة عن تهديد الأمن الإسرائيلي.
في العام 1982، برزت هذه الأفكار بقوة في ورقة «خطة ينون» (خطة إسرائيل الكبرى في الثمانينيات) التي دعت صراحة إلى تفتيت الدول العربية الكبرى على أساس ديني وإثني. أما في لبنان، فقد بدأ التطبيق العملي لهذا المنظور في سياق الحرب الأهلية، وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، حيث لم يكن الهدف فقط إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، بل أيضاً كسر التوازن السياسي اللبناني وإنتاج اتفاق سلام ثنائي يعزل لبنان عن عمقه العربي.
ثانياً؛ مفاوضات 17 ايار
مع الاجتياح، حاولت إسرائيل فرض واقع جديد يتيح لها صوغ تسوية مع لبنان وسوريا معاً. كانت الطروحات آنذاك ترتكز على تسويات إقليمية كبرى تنهي الصراع العربي-الإسرائيلي عبر قنوات غير فلسطينية، أي مع دول الطوق مباشرة. طرحت إسرائيل مفاوضات ثلاثية تشمل لبنان وسوريا، تنتهي بتوقيع معاهدات سلام تُخرج البلدين من دائرة الصراع، وتمنح إسرائيل اعترافاً وشرعية وحدوداً آمنة.
رفضت سوريا هذا الطرح بشكل قاطع، وأجبرت لبنان عبر حلفائها على إسقاط اتفاق 17 أيار(مايو) 1983، الذي وُقع نتيجة مفاوضات إسرائيلية-لبنانية مباشرة برعاية أميركية. حينها، سقط المشروع ظرفياً، لكنّه لم يُغادر العقل الإسرائيلي.
ثالثاً؛ التفتيت و”حماية الأقليات”
مع تصاعد الحروب الأهلية والنزاعات المذهبية على المستوى الإقليمي منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والتي ازدادت تفاقما غداة “الربيع العربي” في العام 2011، عادت إسرائيل إلى طرح “حلول” جديدة تُعيد تدوير مشروع التفتيت القديم، ولكن هذه المرة عبر دعم مقاربات دولية لحماية الأقليات، خصوصاً في سوريا ولبنان، بحجة تفكك الدولة المركزية وانتشار الفوضى و”الإرهاب”. لعبت هذه الرؤية دوراً في مواقف إسرائيل من الأزمة السورية، حيث لم تعارض تل أبيب بقاء النظام السوري إلا من زاوية النفوذ الإيراني، مع تأكيدها المتواصل على وجوب إبعاد “الخطر الإيراني” عن حدودها.
رابعاً؛ التفكك السياسي والاقتصادي اللبناني
تدرك إسرائيل أن لبنان يعاني من أسوأ أزماته الاقتصادية والمالية والسياسية، وهي ترى في ذلك فرصة لدفعه نحو خيارات تسوية غير عادلة، تتجاوز اتفاق الهدنة للعام 1949، وتقود إلى تطبيع غير مباشر. لكن لبنان ما يزال يتمسك بالمبادرة العربية للسلام الصادرة عن قمة بيروت 2002، والتي تربط التطبيع بحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين وعودة اللاجئين (القرار 194) والسلام العادل والشامل.
في المقابل، تسعى إسرائيل إلى توظيف الضغط الأميركي والعقوبات والانهيارات لفرض أمر واقع جديد يجعل لبنان مضطراً للموافقة على شروط غير متكافئة، سواء في الترسيم الحدودي، أو في مقاربات الأمن البحري والاقتصادي.
خامساً؛ جر لبنان وسوريا إلى التطبيع
مع توقيع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان اتفاقيات سلام “إبراهيمية” مع إسرائيل، تطرح تل أبيب أن ضمّ دول الطوق – وتحديداً لبنان وسوريا – إلى هذا المسار الذي سيُكمل “حزام السلام” حولها. وتراهن إسرائيل على انهيار الممانعة السورية، وتآكل الموقف اللبناني بفعل الانقسام الداخلي، لتدفع نحو تطبيع شامل. لكن العقبة الأبرز تبقى في الموقف الرسمي للبنان الذي ما يزال يرفض التطبيع، برغم كل الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية.
خاتمة؛ هل نعرف ماذا نريد؟
مقابل هذا الوضوح الإسرائيلي، يبدو الموقف العربي واللبناني تحديداً مترددًا، غير موحد، وضعيف الأدوات. بينما تسير الجرافة الأميركية-الإسرائيلية بلا هوادة نحو فرض واقع إقليمي جديد، تفتقر دول الطوق إلى استراتيجية مقاومة متماسكة.
إن وحدة الموقف الوطني اللبناني والتمسك بالثوابت الميثاقية والسيادية، ورفض التفريط بالمبادرة العربية، هي الأسلحة الوحيدة الممكنة في هذه المرحلة. فأيّ تراجع عن هذه الثوابت سيدفع بلبنان إلى دوامة الفتنة الداخلية، وهذا بالضبط ما تريده إسرائيل منذ عقود، وما لا يجب أن يُسمح له بالتحقق.
- المراجع والهوامش
- خطة ينون (Yinon Plan):
- خطة استراتيجية إسرائيلية نُشرت عام 1982 في مقالة للكاتب أوديد ينون في مجلة “كيفونيم”، تدعو إلى تقسيم الدول العربية إلى دويلات صغيرة على أسس طائفية وعرقية.
- المرجع: Oded Yinon, A Strategy for Israel in the 1980s, Kivunim Journal, World Zionist Organization, February 1982.
- اتفاق 17 أيار(مايو) 1983:
- اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية عقب الاجتياح الإسرائيلي، أُسقط لاحقاً بفعل المعارضة اللبنانية والضغط السوري.
- المرجع: William B. Quandt, Peace Process: American Diplomacy and the Arab-Israeli Conflict Since 1967, Brookings Institution Press, 2005.
- المبادرة العربية للسلام (قمة بيروت 2002):
- طرح عربي جماعي للسلام مع إسرائيل مقابل انسحابها الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967، وإنشاء دولة فلسطينية.
- المرجع: Arab League, Arab Peace Initiative, Beirut Summit, March 2002.
- الاتفاقات الإبراهيمية (Abraham Accords):
- سلسلة اتفاقيات تطبيع وقّعتها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب مع إسرائيل عام 2020 برعاية أميركية.
- المرجع: U.S. Department of State, Abraham Accords, 2020. [state.gov]
- الدور الإسرائيلي في الأزمة السورية:
- المرجع: International Crisis Group, Israel’s Syria Dilemma, Middle East Report No. 163, April 2015.
- التفكك الداخلي في لبنان وخطر التطبيع:
- المرجع: Asher Kaufman, Contested Frontiers in the Syria-Lebanon-Israel Region, Woodrow Wilson Center Press, 2014.
- تحليلات أمنية إسرائيلية حول لبنان وسوريا:
- المرجع: Efraim Inbar and Eitan Shamir (Eds.), Zionism and the Defense of Israel: Armed Forces, Intelligence, and Foreign Policy, Routledge, 2020.
- توصيف الضغوط الاقتصادية كأداة تطويع سياسي:
- المرجع: Joseph Massad, The Persistence of the Palestinian Question, Routledge, 2006.