ديفيد أغناتيوس: نصرالله يختار مصيره بنفسه

اختار الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله أن يعيش ويموت مقاتلاً، وقد تحققت أمنيته يوم الجمعة الماضي، عندما اغتالته إسرائيل بغارة جوية استخدمت فيها عشرات الأطنان من القنابل، بما فيها القنابل الخارقة للتحصينات. ومن المؤكد أن حزب الله سيسعى إلى الانتقام لمقتل زعيمه المثالي والنادر والذي قد يكون من المستحيل تعويضه.

كنت قد التقيت بالسيّد حسن نصرالله، في أحد أيام شهر تشرين الأول/أكتوبر 2003، في الضاحية الجنوبية لبيروت (…). وعلى الرغم من أنه كان مقاتلاً قضى عمره في الميدان يخوض المعارك، إلا أن حديثه كان هادئاً إلى حد مُدهش. وكان أيضاً ساحراً، وأبعد ما يكون عن الصخب؛ وكانت بلاغته المستمدة من دراسته للعلوم الدينية في النجف بالعراق ظاهرة ويُمكن أن تسحر أي مُحدثٍ له، وهي البلاغة التي تميّزت بها كل خطبه المشوّقة، خصوصاً تلك التي كان يُلقيها خلال شهر محرم وفي الأعياد الدينية التي كانت تنقلها معظم شاشات التلفزة.

في لبنان، حيث يعيش الزعماء السياسيون عادة حياة مترفة، حتى وهم ينهبون الشعب، كان نصرالله مختلفاً عن كل الباقين. فقد أخبرني بفخر أن ابنه هادي استشهد وهو يقاتل إسرائيل في عام 1997. قال لي: “نحن لم، ولا نرسل أطفالنا إلى لندن أو باريس للعيش أو الدراسة، نشجعهم على الدراسة في جامعات بلدهم، ولا نتردد في دفعهم للإنضمام إلى المقاومة والقتال إلى جانب إخوانهم اللبنانيين الآخرين في سبيل وطنهم وأرضهم وشعبهم”.

كان نصرالله أيضاً رجلاً عصامياً وعنيداً. ولهذا السبب كان “الهدف رقم واحد” بالنسبة لإسرائيل. فقد أمر بفتح جبهة إسناد لأهالي غزة في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي بعد يوم واحد فقط من بدء حرب غزة. ومنذ ذلك الحين شنَّ مقاتلو حزب الله آلاف الهجمات الصاروخية ضد إسرائيل، وفي الوقت نفسه، ظلَّ متماسكاً ومتمسكاً بقدر كبير من ضبط النفس حتى آخر، وامتنع عن شنّ هجمات واسعة النطاق على المدن والمدنيين الإسرائيليين رغم كل الاستفزازات والهجمات التصعيدية الإسرائيلية التي مورست بحقه وحق مقاتليه وبيئته. رغم كل ما تكبده حزبه – خصوصاً لناحية كوادره البشرية- لم يتراجع قيد أنملة عن قراره بإسناد غزة وأهلها.

وكذلك لن يفصل نصرالله بين مصير حزب الله في لبنان ومقاتلي المقاومة الفلسطينية في غزة. لقد كانت لديه أكثر من فرصة لإنقاذ نفسه وحزبه، في إطار “خطط سلام” كان يحملها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى لبنان. لكن نصرالله رفضها كلها فقط لأنها كانت تتطلب منه وقف جبهة الإسناد وقطع العلاقات مع المقاومة الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص مع حركة “حماس”. وهذا ما لم يكن ليفعله نصرالله.. ولم يفعله.

في عام 2003، عندما التقيته، سألته عمَّا إذا كانت هناك أي صيغة للسلام من شأنها أن تضع حداً للتفجيرات الانتحارية التي كانت المقاومة الفلسطينية تنفذها آنذاك ضد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية. أجابني نصرالله بهدوء شديد: “استناداً إلى حقيقة المشروع الإسرائيلي وطبيعة المسؤولين الإسرائيليين، فأنا لا أستطيع أن أتخيل وضعاً يُمكن أن يجعل الفلسطينيين يوافقون على إلقاء السلاح”.

لم يكن نصرالله يرى بديلاً عن المقاومة المسلحة في مواجهة إسرائيل. وهو نفسه كان قائداً لمقاومة مسلحة لمدة 32 عاماً. فقد قال لي: “في وقت توقيع اتفاقيات أوسلو، عام 1993، بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، كان هناك نقاش فلسفي حول السلام. لكن ذلك العصر قد انتهى، إذا أننا- منذ ذلك الحين – لم نسمع حتى بمبادرة لإحياء محادثات السلام”.

نجح نصرالله في تأسيس حزب مقاوم وقوي بشكل غير عادي، وفي بناء حاضنة شعبية أيضاً غير عادية. كان قائداً تاريخياً لحزب يمتاز؛ إلى جانب القوة؛ بإنضباطية استثنائية إلى الحد الذي جعله قادراً مع مرور الوقت على أن يصبح الأقوى ليس في لبنان وحسب بل وفي المنطقة كلها. وعناصر حزب الله يختلفون كثيراً عن عناصر الميليشيات اللبنانية الأخرى، فهم أكثر شباباً وقوة وتنظيماً وانضباطاً (…).

لقد جسّد حزب الله القوة المنظمة لأبناء الطائفة الشيعية في لبنان، الذين كانوا في يوم من الأيام يعانون من الحرمان والإهمال، ومع ذلك أصبحوا الأكثر عدداً وقوة. (…).

لم يتراجع قيد أنملة عن قراره بإسناد غزة وأهلها.. كانت لديه أكثر من فرصة لإنقاذ نفسه وحزبه رفضها كلها فقط لأنها كانت تتطلب منه قطع العلاقات مع المقاومة الفلسطينية.. وهذا ما لم يكن ليفعله نصرالله.. ولم يفعله

شارك الحزب في الحياة السياسية، وتمثل أعضاؤه في مجلسي النواب والوزراء. وكانوا يمارسون حق النقض فيما يتصل بمن يقود البلاد كرئيس (مسيحي، وفقاً لصيغة تقاسم السلطة في لبنان) ورئيس وزراء (مسلم سني). ولكن القوة الحقيقية التي امتلكها حزب الله كانت تتمثل في الانجازات التي حققها في مناطقه، أهمها بناء شبكته الخاصة من منظمات الرعاية الاجتماعية والأمن لخدمة بيئة المقاومة ضد إسرائيل.

نجح نصرالله في كسب شعبية لحزبه لا مثيل لها (…)، “حتى أن علَّاقات المفاتيح، القمصان، الأزرار، الملصقات وغيرها من الأشياء التي تحمل شعار حزب الله كان يمكن شراءها من أماكن كثيرة، بما فيها تلك البعيدة عن لبنان- مثل دمشق”، بحسب الكاتب أوغسطس ريتشارد نورتون، في كتابه الصادر عام 2007 تحت عنوان ‘حزب الله‘”.

إقرأ على موقع 180  من يرث أمريكا؟

استشهد في معركة فُرضت عليه

ولكن برغم الشخصية الإستثنائية التي تميز بها نصرالله، هناك العديد من اللبنانيين لا يحبونه ويكرهون حزبه. وقد تبين ذلك بوضوح بعد حادثة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، في شباط/فبراير 2005، عندما ألقى الآلاف من اللبنانيين باللوم على سوريا، وحليفها حزب الله ضمناً (…). وتعمق الشعور المناهض لحزب الله بعد حرب تموز/يوليو 2006 (…).

إن حرب غزَّة التي أدت إلى استشهاد نصرالله هي حرب لم يكن لا هو ولا حزبه ليرغبوا في أن يتورطوا بها بهذا الشكل من الدرامية. لقد فرضت المعركة نفسها عليهم. إنها عباءة المقاومة (…).

في حزيران/يونيو 2002، سألتُ العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، الذي كان أحد المرشدين الروحيين لنصرالله، عمَّا قد يقوله للأطفال الإسرائيليين الأبرياء الذين قُتِلوا على يد أحد الانتحاريين. فأعاد فضل الله السؤال إليّ، قائلاً: “وماذا تقول أنت عن ضحايا ناغازاكي؟”. وأضاف “أثناء الحرب، يحدث كل شيء.. لأن الحرب هي الحرب”.

الشيعة مخلصون جداً للشهداء.. وهذا متأصل في عقيدتهم وموروثهم الاجتماعي، منذ الإمام علي بن أبي طالب الذي قُتل في عام 661، وابنه الحسين، الذي قٌتل في عام 680. وخلال سبعينيات القرن العشرين في لبنان، كان الإمام موسى الصدر، مؤسسة حركة المحرومين “أمل” الذي غُيّبَ في ليبيا في عام 1978 هو “الشهيد الحي”.

عندما ظهر نصرالله كزعيم لحزب الله، في عام 1992، كانت الملصقات التي تحمل صورته تحمل في الوقت نفسه صورة الإمام الصدر. وفي دراسة بعنوان “الإمام المُغيَّب“، أجراها في عام 1987، وصف فؤاد عجمي التحدي والموت عند الشيعة بالقول: “الشباب يرابضون خلف المتاريس، ومعهم صور إمامهم، يدافعون عن كل ما هو ملكهم وملك طائفتهم حتى لو كانت أنقاضاً”.

والآن، انضم نصرالله إلى قافلة الشهداء الشيعة الطويلة. وسوف يرثيه أتباعه طويلاً وسيسعون للانتقام له- أشد انتقام- حتماً (…).

– ترجمة بتصرف عن “الواشنطن بوست“.

(*) ديفيد إغناتيوس، كاتب عمود في صحيفة “الواشنطن بوست”.

 

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مركز هرتسليا: تحركات إقليمية خارج المعسكرات والتحالفات