الحرب الإدراكية.. أسلوب جديد في القتال

علي رعدعلي رعد09/10/2024
برغم استشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله والعديد من القادة الحزبيين، إلاّ أنّ هيكلية المقاومة تتماهى مع بيئة المقاومة، وهي بيئة ولّادة للقادة، الأمر الذي عبّر عنه نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، بتأكيده أنّ المقاومة ستختار أميناً عاماً جديداً وفقاً للإجراءات المتبعة سابقاً، وجزم أنّ هيكلية وبنية وقدرة المقاومة ما تزال بخير، وستبقى تساند غزة وتدافع عن لبنان. 

ماذا تريد “إسرائيل” من وراء هذا العدوان الشامل على لبنان؟ وهل أصبحت مؤهلة لتغيير ميزان القوى القائم منذ العام 2006 حتى يومنا هذا؟ وهل يعني ذلك أنّها ستمضي بقرار الحرب مع لبنان من أجل استعادة الردع على جبهتها الشمالية وبالتالي إعادة مستوطنيها؟

إنّ التصريحات “الإسرائيلية” تشي بأن حكومة بنيامين نتنياهو تتصرف على أساس أنها تخوض “حرباً وجودية” من غزة إلى طهران مروراً بلبنان هدفها “تغيير الواقع في الشرق الأوسط”، على حد تعبير نتنياهو بعد ساعات من اغتيال السيد نصرالله.

إنّ الحكم على العدوان “الإسرائيلي” يتوقف على نتائجه الاستراتيجية لا على الوسائل التي يستخدمها، فالأيام والأسابيع القادمة سترسم مسار المرحلة المقبلة. ففي وقت سابق، أعلن قادة العدو بطريقة غير مباشرة أنّ هدف العدوان على لبنان هو إعادة المستوطنين “الإسرائيليين” إلى شمال فلسطين المحتلّة. ولكن سرعان ما أتى الرد على لسان قائد المقاومة في خطاب متلفز بأنّ “إسرائيل” لم ولن تستطيع إعادة المستوطنين الإسرائيليين إلى شمال فلسطين”. وهذا يضعنا أمام احتمال أن تكون “إسرائيل” قد وقعت في الفخّ الاستراتيجي برغم تفوّقها التكنولوجي والاستخباراتي، فقد حاصرت نفسها بهدف لا يمكن أن تحققه بالقوة العسكرية. وبالتالي، هذا الهدف المعلن من قبل العدو يدلّ على أنّ قادته لم يأخذوا الدروس والعِبر من حرب غزة. بل ولم يدركوا أنّ نقل ثقل المعركة إلى الشمال سيُمثّل فرصة للمقاومة في خوض معركة استنزاف طويلة الأمد على غرار ما يحدث في غزّة حالياً، برغم أن الحرب الأخيرة المستمرة منذ سنة حتى الآن بيّنت أن “إسرائيل” مستعدة لخوض المعركة على أكثر من جبهة وليس بالضرورة أن تكون معركة خاطفة، مثلما أوقفت عدّاد القتلى منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى يومنا هذا، بما يُعاكس العقيدة الأمنية “الإسرائيلية” التقليدية القائمة على أعمدة الردع، الإنذار، الحسم، وحماية الجبهة الداخلية.

تعيش “إسرائيل” حالة من النشوة ظنّاً منها أنها تحقق أهدافها من جراء العدوان الذي يشنّه على غزة ولبنان، لكن سرعان ما ستدرك أنها لن تحقق أهدافها الاستراتيجية، وخصوصاً إذا تضافرت المعركة البرية مع قرار إيران إستعادة قوتها الردعية، فيكون ردها على الرد الإسرائيلي رادعاً ومؤلماً

وتريد “إسرائيل” من خلال العمليات الأمنية والتدمير الوحشي والتغول ضد المدنيين أن تُحدث صدمة عميقة تُمهّد إلى انهيار ادراكي (Cognitive Decline) لدى المقاومة وجمهورها. يصرّ العدو على استهداف المقاومة وبيئتها في المجال المعرفي بهدف التأثير على الإدراك لدى كل فرد، كما يحاول أن يضعف ثقة المجتمع من خلال عنصر الصدمة. وهذا جزء من الحرب المعرفية التي تُبثّ في مجتمع المقاومة. إنّ فهم ديناميكيات الحرب الإدراكية (Cognitive Warfare) والمعلوماتية أمر بالغ الأهمية في مواجهة التأثيرات الخارجية لتحصين المجتمع وخصوصاً خلال الحروب.

ويُعرّف الباحثون الحرب الإدراكية أو المعرفية بأنها الأنشطة التي تُنفذ بالتوازي مع أدوات القوة الأخرى، بهدف التأثير على المواقف والسلوكيات من خلال تعديل إدراك الأفراد والجماعات، وذلك لتحقيق مزايا معينة على الطرف المستهدف، حيث تسعى عمليات المجال المعرفي إلى الاستيلاء على العقول، وتغيير أفكار وإدراكات الخصم لتشكيل قراراته وأفعاله، وهذا ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى استنزاف إدراك المجتمع وقادته.

ويُعرّف فرانسوا دو كلوزيل، الضابط العسكري الفرنسي السابق، الحرب المعرفية بأنها “فن استخدام التكنولوجيا لتغيير إدراك الأهداف البشرية”، إذ تبدأ بالمعلومات التي تُعدّ وقوداً للحرب الإدراكية. وبعبارة أخرى، إن “الحرب الإدراكية ليست مجرد كلمة أخرى أو اسماً آخر لحرب المعلومات. إنها حرب على “معالجنا الفردي”، أي الدماغ”. ويؤكد كلوزيل أنّ الحرب الإدراكية ليست مجرد معركة ضد ما نفكّر فيه، بل هي معركة ضد الطريقة التي نفكّر بها، أي تغيير طريقة التفكير التي يفكر بها الناس. وتُعدّ أقوى وأعمق من الحروب المعلوماتية والنفسية. ويصف باحث آخر في حلف “الناتو” الحرب الإدراكية بأنّها “طريقة لإلحاق الضرر بالدماغ”. وتنطوي الحرب الإدراكية على التضليل المعلوماتي والنفسي والهندسة الاجتماعية (Social engineering).

ومن الممكن أن تحفّز الحرب الإدراكية الأفراد على التصرّف بطرق تؤدي إلى تعطيل أو تفتيت مجتمع متماسك لديه معتقدات ومبادئ يؤمن بها، وهذا الأمر لا يُمكن أن ينطبق على نموذج مجتمع حزب الله وبيئته الحاضنة التي لم تكن حاسمة في خياراتها أكثر من اللحظة التي أعقبت اغتيال السيد نصرالله. ويُشدّد بعض المنظرين في العلاقات الدولية على أنّ الشعور القومي (nationalism) لدى المجتمع هو المحرّك والقوة الرئيسية لهزيمة عدو يتفوق بالعناصر المادية في مختلف المجالات؛ زدْ على ذلك العنصر الروحي (الديني) وهو مُحدد حاسم في التجربة اللبنانية منذ العام 1982 حتى يومنا هذا.

ولو عُدنا إلى العمليات الأولى التي أطلقتها المقاومة ضدّ العدو “الإسرائيلي” قبل أربعين عاماً ونيف، يتبين لنا بأنّ السلاح التقليدي غير المتكافئ الذي امتلكته في بداياتها ها هو يعود اليوم السلاح الأكثر حضوراً (المواجهات البرية) بفضل العقيدة والروح القتالية، وهذه ليست مجرد جمل إنشائية لرفع المعنويات، بل هذا واقع معيوش، ويجب أن لا نغفل أنّ المنتصر في الحرب هو من يفرض إرادته على الآخر، فإرادة القتال هي الجوهر التي يجب أن تبقى حاضرة حتى لو كان العدو متفوقاً مادياً، فهذا لا يعني على الإطلاق أنّه سينتصر والشواهد على ذلك كثيرة.

إقرأ على موقع 180  تجاهل الاستنزاف تجهيل بأكتوبر.. شهادة خالد عبدالناصر

خاتمة

ختاماً، إنّ حزب الله يُعيد تقييم خياراته بشجاعة وحكمة وذكاء ولا يحيد عن أهدافه؛ وبرغم سقوط قواعد الإشتباك السابقة، وحتى لو أفضت تعقيدات الحرب إلى توسعة شاملة من أجل استعادة الردع (Deterrence). فإن المقاومة صامدة لا سيما في مواجهة الحرب النفسية التي تُشنُ عليها بكل الوسائل.. وعلى فرض أنّ العدو يفكر في الإقدام على إعادة احتلال معظم الجنوب اللبناني، فإن المقاومة اللبنانية عوّدتنا من خلال أسلوبها القتالي والاستثنائي وروحيتها العالية على تحويل التهديد إلى فرصة حقيقية للتفوق على هذا العدو واسقاط أهداف حربه وبالتالي هزيمته استراتيجياً.

تعيش “إسرائيل” حالة من النشوة ظنّاً منها أنها تحقق أهدافها من جراء العدوان الذي يشنّه على غزة ولبنان، لكن سرعان ما ستدرك أنها لن تحقق أهدافها الاستراتيجية، وخصوصاً إذا تضافرت المعركة البرية مع قرار إيران إستعادة قوتها الردعية، فيكون ردها على الرد “الإسرائيلي” رادعاً ومؤلماً. لننتظر ونرَ.

Print Friendly, PDF & Email
علي رعد

كاتب، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  تجاهل الاستنزاف تجهيل بأكتوبر.. شهادة خالد عبدالناصر