السنوار.. قسّامي يهزم “إسرائيل” حياً وشهيداً

جريحاً؛ متماسكاً، مستريحاً على كنبة صغيرة في حيٍّ مُدمّر ومنزل شلّعت القذائف جدرانه وأبوابه ونوافذه، جلس يحيى السنوار بلباسه العسكري وسلاحه ينتظر اللحظة التالية، فدخلت عليه الـ"درون" لتجد نفسها وجهاً لوجه قُبالة مُلثم، وما أن حاولت الإقتراب منه حتى أطلق عليها عصاه الخشبية بيده اليسرى غير الجريحة، قبل أن تصيبه شظايا قذائف دبابة فيخر صريعاً.

هذا ليس بمشهد سوريالي؛ هذه حقيقة شاهدها الناس في لقطات الفيديو التي رصدت اللحظات الأخيرة في حياة قائد فلسطيني كبير، وهي تتشابه مع نهاية القائد الأممي أرنستو تشي غيفارا في أواخر ستينيات القرن الماضي، مع فارق أن الأخير كان أسيراً جريحاً، فيما كان السنوار يقاتل حتى الرمق الأخير ولو بالعصا في مواجهة الطائرة والقنبلة في مواجهة الدبابة.

ولو سئل يحيى السنوار عن أي السيناريوهات أحب إليه في لحظة شهادته، لكان أجاب “هذا السيناريو أجمل من أن تصدقه عيناي لو شاهدته بأم العين”. مشهدية تكسّرت معها حقائق لطالما حاولت الماكينة الإعلامية “الإسرائيلية” إخفاءها، لا بل تزويرها، فالسنوار لم يكن، كما زعمت “إسرائيل”، مختبئاً في نفق ولم يكن يتخذ الأسرى “الإسرائيليين” دروعاً بشرية ليحمي نفسه، بل كان يقاتل إلى جانب رجاله القسّاميين كأي فرد منهم وسقط مثل أي شهيد منهم. وفي شهادته هذه، هزم الرواية “الإسرائيلية” التي تم تداولها على مدى عام من العدوان على قطاع غزة تماماً كما هزمها يوم شنّ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023..

إنّ مسيرة هذا القائد كانت منذ اللحظات الأولى لأسره وسجنه قبل عقود لمدة عشرين عاماً، تشي بما يحمله من رؤية للعمل من أجل تحرير فلسطين، فهو تسلح بداية بالمعرفة بطبيعة عدوه عبر دراسته للغته وتعمقه في نمط تفكيره، ليُراكم معطيات أكثر من خلال المفاوضات التي كان يُجريها مع سجّانيه لتحسين ظروف الأسرى في السجن، وبعدها انطلق في مسيرة أمنية عسكرية سرية للتحضير لعملية “طوفان الأقصى” بسرية أذهلت عقولاً أمنية وعسكرية في شتى أنحاء العالم وليس فقط في “إسرائيل”، فعلى مدى عامين كان يُجري التحضيرات الميدانية والمناورات العسكرية والأمنية تحت نظر “الإسرائيليين”، جواً وبحراً وبراً، في منطقة جغرافية مسطحة صغيرة ومحاصرة من دون أن يعرف عدوه ما هي أهداف هذه المناورات، إلى أن حلّت “ساعة الصفر” وانطلق الهجوم ليُشكل أكبر صفعة عسكرية وأمنية لـ”إسرائيل” منذ انشاء كيانها في العام 1948، مُحققاً نصراً كبيراً.

ومع انطلاق الحرب “الإسرائيلية” الانتقامية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، قاد السنوار مقاتليه في مواجهات بطولية على كل محاور القتال من أقصى شمال القطاع المحاصر إلى أقصى جنوبه، وبرغم صغر المساحة الجغرافية، حشدت “إسرائيل” أكثر من 350 ألف ضابط وجندي في مواجهة بضعة آلاف من المقاتلين، تدعمها أساطيل الولايات المتحدة والعديد من دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولأنها لم تتمكن من كسر رجال السنوار في الميدان، لجأت الآلة الحربية “الإسرائيلية” إلى حملة إبادة جماعية لسكان القطاع عبر المجازر المتنقلة بين مدرسة ومستشفى ومركز إيواء وخيم نازحين، فصمد “أبو إبراهيم” ورفاقه برغم هول المجازر.

حاول “الإسرائيلي” أن يُشوّه نضال يحيى السنوار بالقول إنه هارب ومختبئ في الأنفاق وأنه يتخذ من الأسرى “الإسرائيليين” دروعاً بشرية لحماية نفسه ومقاتليه، وحاول ترغيبه بتأمين خروجه الآمن بعد ترهيبه بالمجازر، لكنه لم يخضع للترهيب والترغيب وواصل القتال والتفاوض من موقع القوي. ووفقاً للرواية “الإسرائيلية”، فإن الجيش “الإسرائيلي” لم يكن يعلم أن مجموعة المقاتلين الثلاثة التي اشتبك معها تضم مقاتلاً إسمه يحيى السنوار شخصياً، فهو كان يرتدي لباساً عسكرياً وملثماً كفدائيي الزمن الجميل، وفيما كانت “إسرائيل” تُسخّر كل ما توافر لديها ولدى حلفائها الغربيين ولا سيما الولايات المتحدة من تكنولوجيا ومنظومات رقابة ورصد وتجسس للبحث عن السنوار تحت الأرض، كان زعيم حماس يصول ويجول فوق الأرض في تل السلطان برفح جنوب القطاع، مقاتلاً شديد البأس إلى أن التحم مباشرة مع الجنود “الإسرائيليين”، فأطلق رصاصاته وقنبلتين يدويتين، وأصيب في أنحاء عدة من جسده، فهرب باقي الجنود وأرسلوا مُسيّرة لتلاحقه داخل المنزل الذي لجأ إليه، علماً أن هذا المنزل كان مكشوفا بسبب تهدم جدرانه، ومع ذلك فقد حاول “أبو إبراهيم” طرد المُسيّرة بعصا يحملها ويتكئ عليها وهو جريح، بينما كان يُزنر كتفه الأيمن بشريط يمنع نزيف جرحه الغائر، فانسحبت المُسيّرة ليُطلق طاقم إحدى الدبابات نيران مدافعها عليه من دون أن يعرف أحد من أفراد هذا الطاقم أنه بقذيفته تلك يقتل أهم قائد ميداني أنجبته أرض فلسطين. وبعد استشهاده حاولت الماكينة الإعلامية “الإسرائيلية” أن تصوّر هذه المواجهة العسكرية الميدانية على أنها عملية اغتيال، لكن كل من يفهم ألف باء العمل العسكري يعرف جيداً أنه لا يمكن وصف ما جرى بعملية اغتيال طالما أن هوية الهدف لم تكن معروفة مسبقاً.

استشهاد يحيى السنوار سيُشكّل درساً في فن التمويه والقيادة العسكرية في ظل الحصار الخانق، ودرساً في كيفية تحويل الإستشهاد إلى وعد بالانتصار. لنتذكر أن السنوار لم يتفوه بكلمة منذ بدء معركة “الطوفان” تاركاً لأفعال وبطولات وتضحيات رجاله أن ترسم سيرة مقاومة لا مثيل لها في تاريخ المقاومات في العالم أجمع.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  هيكل وشيخ الأقصى.. ورسالة عمرها 15 عاماً
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  طرابلس مُغتصَبة.. هل تسكُت مُغتصَبة؟