ينقل الرئيس الأسبق لحزب “الكتائب” كريم بقرادوني في كتابه “السلام المفقود” عن رئيس الجمهورية الأسبق الياس سركيس قوله “لا أعرف في لبنان سوى شخصيتين يستطيعان الإستدارة 180 درجة من دون ان تهتز قواعدهما الشعبية وهما بيار الجميل وكمال جنبلاط، وفي وسع كل منهما أن يسمح لنفسه بتنبي فكرة في الصباح ونقيضها مساء”.
هذه الصورة كما يرسمها سركيس لبيار الجميل، ستظهر في العديد من مواقفه ومراحله السياسية بحيث تبدو صناعة السياسة لديه إبنة اللحظة، ومن أمثلة ذلك ما يقوله بقرادوني في “دفاتر الرؤساء” لغسان شربل إثر الإنتخابات الرئاسية عام 1970 وتصويت الجميل لسليمان فرنجية وفوز الأخير وخسارة المرشح الشهابي الياس سركيس:
“عام 1970 عندما خاض بيار الجميل مع الحلف (الثلاثي)، أي مع كميل شمعون وريمون إده انتخابات الرئاسة وانتصر فرنجية واعتُبر هذا الإنتصار لحزب الكتائب الذي وقف مع سليمان فرنجية ضد النهج (الشهابي) أتذكر تماماً أن بيار الجميل غادر مجلس النواب إلى بيت الكتائب في الصيفي، وكنتُ هناك وبدا وجهه أسود اللون، وحاول شباب الكتائب حمله في أجواء هيصة واحتفالات بسقوط العهد الشهابي والياس سركيس. راح بيار الجميل يدفش هؤلاء الشباب بعصبية كلية وصعد إلى الدرج منرفزاً، وفي مكتبه كان شارد الذهن وحزيناً، ولم يقل أي كلمة، كان يحك وجهه وفي حال عصبية يعيش مرارة، وشعرتُ آنذاك كأنه يعاني ذنب اقترافه خطأ إسقاط الشهابية، كانت عقدة ذنب بالنسبة إليه”.
هذا مفصل أول: إسقاط الشهابية واللطم عليه.
ماذا في المفصل الثاني؟
لم يعد ترحيب “الجبهة اللبنانية” بدخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 أو بـ”المبادرة السورية” سراً من أسرار الآلهة، لكن ما يكشفه كريم بقرادوني في “السلام المفقود” يضفي ميزة على قول القائل لكونه من “أهل البيت” فرئيس “الكتائب” قال للمبعوث السوري محمد الخولي في كانون الثاني/يناير 1977 “إننا نؤيد المبادرة السورية ونحترم الرئيس (حافظ) الأسد أكثر مما نحترم أي شخص آخر، وأنبهك إلى ان عملاء مخربين تسللوا إلى صفوفنا وإلى جيشكم، عملاء عراقيون وليبيون وإسرائيليون يريدون بذر الفرقة بيننا لأن تفاهمنا يلحق الضرر بهم، يجب أن نتعاون وأن نعزز العلاقة بيننا لنفشِل خطتهم”.
ويشرح جوزيف ابو خليل في كتابه “لبنان وسوريا مشقة الأخوة” المواقف السياسية تجاه دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 فيقول “وإذا كان لي أن أدلي بدلوي في قصة الدخول السوري إلى لبنان، فأني لأشهد بأننا كنا مرحبين بهذا الدخول لا معترضين، وفي الكتائب كما في كل الأوساط المسيحية كنا نتابع بلهفة حارة أنباء تقدم القوات السورية في البقاع وصوفر وبحمدون وعاليه، وكنا نشكو أيضا وأحيانا بطء هذا التقدم وتعثره”.
ما يقوله جوزيف ابو خليل، كان تضمنه بيان لـ”جبهة الحرية والإنسان” التي عقدت اجتماعها الأول في جامعة “الروح القدس” في الكسليك، ومما نقلته “النهار” اللبنانية في الثاني من شباط/فبراير 1976 أن إثر هذا الإجتماع الذي حضره الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل والأباتي شربل قسيس والمحامي شاكر أبو سليمان والدكتور شارل مالك والشاعر سعيد عقل، أصدر المجتمعون بياناً هذا نصه:
“تابعت جبهة الحرية والإنسان في لبنان درس الموقف وعرضت الجهود التي يقوم بها الوفد السوري الكريم والنتائج الإيجابية التي توصل إليها، وهي تأمل في أن يستمر هذا الجهد السوري الخيِر، بحيث يصار إلى حل كل الأمور العالقة في الساحة اللبنانية ويخلق جواً من التعاون بين البلدين على أساس من الثقة والإحترام”.
وفي 21 نيسان/إبريل 1976، نشرت صحيفة “النهار” موقفا للجميل قال فيه “أسارع أولا إلى تأكيد التأييد المستمر للمبادرة السورية الأخوية بلا تحفظ ولا تردد”. وعلى ما نقلت “النهار” أيضاً أن الجميل “أشاد بموقف سوريا وأكد قناعة الشعب اللبناني وثقته بإخلاص الرئيس حافظ الأسد الذي أدرك بثاقب نظره وعميق إدراكه المسؤول ووعيه المصلحة العربية العُليا”.
ويسرد بقرادوني في “السلام المفقود” تفاصيل الغبطة والبهجة التي طغت على وجهي الرئيس شمعون ومؤسس “الكتائب” حين جاء المبعوث السوري محمد الخولي ليبلغهما أن القوات السورية قررت إخراج مقاتلي الأحزاب اليسارية اللبنانية والمنظمات الفلسطينية من بعض مناطق جبل لبنان عقب هجوم لمنظمة فلسطينية متطرفة في السادس والعشرين من أيلول من أيلول/سبتمبر 1976 على فندق “سميراميس” في دمشق مما أدى إلى مقتل خمسة أشخص وجرح العشرات، وصاغ بقرادوني مشاهد الترحيب العائدة لشمعون والجميل على الشكل التالي:
ـ “عند كميل شمعون كان الجو مفعما بالسرور والإنشراح وقد قال الزعيم اللبناني إني موافق مائتين في المائة ولا تسمع أقوال الرئيس سركيس، إنه ما يزال مبتدئاً، ثم سأل شمعون الخولي: أتريدون القيام بعملية عسكرية في المتن فقط”؟
ـ “كان بيار الجميل يستعد للذهاب إلى الفراش في بكفيا لما وصل الخولي وأطلعه على العملية فأجابه: أخيراً هذا خبر يستحق أن أدخن سيكارة عليه، إني موافق بنسبة ألف في المائة فامضوا في سبيلكم”.
ويكشف جوزيف ابو خليل في “مشقة الأخوة” مداولات أحد اجتماعات المكتب السياسي لحزب “الكتائب” وما قاله مرة الشيخ بيار الجميل في اجتماع انعقد في الثامن من آب/اغسطس 1977 ” إنه لمن المستطاع أن نجعل من التضامن اللبناني ـ السوري أداة لتقوية لبنان وتعزيز موقعه في المنطقة العربية واستقراره، وبقدر ما نكون متفاهمين مع سوريا يرتاح لبنان ويقوى ويستقر”، وفي اجتماع آخر (15 ـ 8 ـ 1977) يورد أبو خليل عن الجميل قوله “لا شك أن القيادة السورية مخلصة في تعاملها معنا، وكلما اتصلنا بالزعماء السوريين وخصوصاً الرئيس الأسد تأكد لنا انهم صادقون في التعامل معنا”.
أكثر من ذلك، ففي كتابه “قصة الموارنة في الحرب” يستشهد أبو خليل بما سمعه من الشيخ الجميل بعد ممانعة الرئيس حافظ الأسد للمشروع اليساري اللبناني ـ الفلسطيني للحسم العسكري في المناطق ذات الأغلبية المسيحية “إن سوريا بما تفعله تخدم العروبة أعظم خدمة، فهي تثبت بذلك أن العروبة تعلو على أي عصبية دينية، وتُعفي المسيحيين من مشقة التوجه إلى الغرب ودوله”.
هذه المواقف، لم تمنع كما هو معروف من اضطراب العلاقة بين دمشق وحزب “الكتائب” ففي أوئل تموز/يوليو 1978، نشبت معارك قاسية بين القوات السورية وقوات “الجبهة اللبنانية” فندد مؤسس “الكتائب”، كما يروي بقرادوني في “السلام المفقود”، بالإتحاد السوفياتي داعيا الولايات المتحدة “إلى التدخل وكرر رغبته في مصالحة الأسد، مشيراً إلى وجود يسار سوري في دمشق يعمل على استمرار الفوضى”. وقد علق الرئيس سركيس على موقف رئيس “الكتائب” قائلاً “يُحيّرني بيار الجميل، إنه يخاطب الأميركيين كما لو كانوا مستعدين ان يخوضوا حرب فيتنام ثانية لأجل المسيحيين، ويخاطب حافظ الأسد كأن هذا مصمم على القيام بإنقلاب لمصلحة الكتائب في سوريا”.
تلك أيضا كانت مواقف الشيخ بيار الجميل في مرحلة من المراحل.
ماذا عن مرحلة أخرى؟
في 18 كانون الأول/ديسمبر1969، أشارت صحيفة “الأنوار” اللبنانية إلى أن بيار الجميل دعا إلى “ضرورة تسليح اللبنانيين كافة حتى يقوموا إلى جانب إخوانهم برد الإعتداءات الإسرائيلية، والأهم في نظرنا هو وجوب إلتزام لبنان إلتزاما كاملا بكل ما يؤدي إلى المساعدة والإسهام في النضال من أجل القضية الفلسطينية”.
ووجًه بيار الجميل (“الأنوار” ـ 16 ـ 12 ـ 1973) رسالة إلى وزير الخارجية الأميركية هنري كسينجر أكد فيها أن “اسرائيل قائمة على أنقاض وطن آخر لشعب آخر، وثمن وجود اسرائيل كان محو إسم فلسطين وتشريد شعبها كما لم يشرد أي شعب آخر”.
ونشرت صحيفة “الأنوار” اللبنانية (7 ـ11 ـ1974) تصريحاً لرئيس “الكتائب” قال فيه “إن اليهود ضللوا العالم، والقضية الفلسطينية لم تُطرح على العالم من قبل أصحابها، وقد فهم العالم القضية كما أفهمه إياها اليهود، وعندما طُرحت القضية في الماضي على الأمم المتحدة، كانت هذه واقعة تحت سيطرة الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي، وكانت آسيا وإفريقيا غائبتان وحتى البلاد العربية ايضاً، وقد ضُلل العالم وغُش من قبل الدعاية اليهودية”.
بُعيد اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، وما تلاها من إنتاج لظاهرة الرائد سعد حداد المتعامل مع الإحتلال الإسرائيلي في جنوبي لبنان، زار وفد من “الجبهة اللبنانية” العاصمة السورية دمشق، وكان من عداده سليمان فرنجية وكميل شمعون وبيار الجميل، وخلال اجتماعه مع حافظ الأسد، توجه الأخير إلى الوفد الزائر قائلاً “يجب إنهاء ظاهرة سعد حداد والتعامل مع اسرائيل. عيب، يا جماعة نحن عرب”، وما كاد الرئيس السوري يختم كلامه حتى قال الجميل “سعد حداد خائن ويجب قتله”.
وبعد سنوات ست على الموقف الذي أطلقه الجميل من دمشق، استقبل رئيس “الكتائب” وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون في الأشرفية في قلب بيروت، كان ذلك قبل الإجتياح في حزيران/يونيو 1982، وعن ذلك اللقاء يتحدث كريم بقردوني في كتابه “لعنة وطن” فيقول:
“أطلعني بشير الجميل على مضمون اجتماع مهم جرى مع أرييل شارون في بيروت خلال شهر كانون الثاني/يناير1982 في بيت بشير بالأشرفية وحضره والده والرئيس كميل شمعون وعدد من المساعدين، في هذا الإجتماع أبلغ شارون الحاضرين أن ثمة قرارا إسرائيليا بتدمير البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن البحث يدور داخل الحكومة الإسرائيلية حول عمليتين: واحدة محدودة ذات بعد أمني تقضي على الآلة العسكرية الفلسطينية في جنوب لبنان وتصل إلى نهر الليطاني، وثانية كبيرة وذات بعدين أمني وسياسي تدمر الآلة الفلسطينية لا في جنوب لبنان فقط، بل في بيروت أيضاً”.
إجتماع آخر بين الجميل وشارون جرت وقائعه بعد اغتيال بشير الجميل كما في “لعنة وطن”، ففي السادس عشر من أيلول/سبتمبر 1982، جاء شارون إلى بلدة بكفيا معزياً بالجميل الإبن، واختلى بالجميل الأب وآخرين، فأكدوا له أنهم اطلعوا على آخر محضر لإجتماع انعقد بينه وبين بشير وأنهم ملتزمون بمضمونه.
وهذه المفارقات الثقيلة والغريبة في مواقف مؤسس “الكتائب” أخرجت أرييل شارون عن طوعه، كما يشرح بقرادوني في “لعنة وطن”، فخلال المفاوضات التي سبقت “اتفاقية 17 أيار” زار شارون بيار الجميل في كانون الثاني/يناير 1983 وعمل على تذكيره بالإجتماع الذي ضمهما في الشهر نفسه من العام 1982 وقال له “عندما طرحتُ عليكم دخول الجيش الإسرائيلي تحمستم ووافقتم وأكدتم أنكم معنا” فسارع بيار الجميل إلى القول “لقد قلتُ لكم إننا معكم ولم أقل لكم إننا ضد العرب”.
لا أحد يدري إذا كان أرييل شارون قد أدرك أو فهم ما قال الشيخ بيار الجميل وهو (شارون) الذي أطبق على 12 طبقاً من الحمص خلال اجتماع مع بشير الجميل في فندق “البستان” في بلدة بيت مري عام 1981، مثلما يروي المؤرخ الإسرائيلي يغال كيبنيس في كتابه “1982 ـ لبنان الطريق إلى الحرب”.
أخيراً؛ يقول كريم بقرادوني في “السلام المفقود” إن إحدى الصحافيات الأميركيات سألت الشيخ بيار الجميل عام 1982 عن ترشيح نجله لرئاسة الجمهورية اللبنانية فأجابها “بشير ممتاز.. مثلي”. هل فهمت الصحافية الأميركية ما أراد الشيخ بيار قوله؟