شهادة واحدة في.. جنوبَين

لم يمضِ يومان على استشهاد القائد الفلسطيني يحيى السنوار في جنوبي غزة بتلك الطريقة السوريالية التي نشرها العدو الإسرائيلي، حتى وزّع صوراً مماثلة في سورياليتها للمقاوم اللبناني الشهيد إبراهيم حيدر في جنوب لبنان.

ما بين الصورتين مشهدية واحدة لما بين الجنوبَين اللبناني والفلسطيني، تكتب هوية تاريخية لشعبين، لترسم بالدم مقاومة بين شهادتين. فكلاهما اختار شكل شهادته، وتوقيتها، وحدّد الزمان والمكان.

صحيح أن سيد شهداء محور المقاومة السيد حسن نصرالله ومن سبقه وتلاه من قادة استشهدوا خلال جهادهم على طريق القدس وفلسطين، وصحيح أن مؤسس حماس الشهيد الشيخ أحمد ياسين ومن سبقه وتلاه استشهدوا على هذا الطريق، ولكن خصوصية مشهدية “الجنوبَين” تمايزت الى حدّ الفرادة، وتمازجت الى حدّ التماهي.

الشهيد يحيى السنوار كان قائداً ميدانياً-سياسياً، لكن البطولة التي اكتسبها حيّاً ضاعفتها شهادته حتى أنها طغت على موقعيته، فرفعته مكاناً علياً على القائد؛ ما بين القيادة والشهادة. هي مكانة قرآنية محسومة: “وللآخرة خير لك من الأولى”، خصوصاً عندما تتخذ الشهادة شكلها الذي فاجأ العالم حدّ الصدمة، بعد عام ونيف من “الطوفان” في ميادين القتال.

والشهيد إبراهيم حيدر مقاومٌ لم يعرفه كثيرون من قبل، لكن طريقة شهادته شَهَرَتهُ في لبنان وفلسطين ووسائل التواصل الاجتماعي، ورفعته إلى مستوى القيادة الفردية لمعركة ملحمية مع كثرة جماعية مضادة، إذ انتبذ في البلاد مكاناً قصياً، زادَه رفعةً ورُقيّا، ليرتقي في مقاومته الفردية قبل أن يرتقي في شهادته بطريقة أسطورية، ترجمت معنى من معاني الالتحام الشخصي المباشر بين المقاوم والغزاة، من حارةٍ إلى حارة، ومن بيتٍ إلى بيت، ومن جدارٍ إلى جدار، وليس المهم أن يسقط أرضاً مضمخاً بدمه، المهم أن يسقط “غالانت” بمقولته “لا تفاوض إلا تحت النار” .

في الجنوب الفلسطيني كانت خصوصية الشهيد يحيى السنوار أنه قائد، فكيف حين يُمسي القائد ميدانياً؟ هنا في الميدان، ثمة فارق ما بين القائد والقيادة، ما بين القائد الميداني الفرد، والقيادة السياسية الجماعية. كان يُفترض ان يكون الشهيد السنوار حيث تكون القيادة في حيّز جغرافي آمن، داخل غزة لو قبِلَ عروض الاستسلام، أو خارجها وقد عُرض عليه الخروج بسلام، وكان بإمكانه أن يكون مع إخوانه في قيادة الخارج، لكنه اختار المقاومة حتى الشهادة، مع كوادرها وعناصرها وبيئتها الحاضنة التي قدّمت نفسها على مذبح فلسطين، منذ اغتصاب أرضها التاريخية عام 1948.

وفي الجنوب اللبناني كانت خصوصية الشهيد ابراهيم حيدر، الجمع بين الشهيد والمقاوم حتى آخر نَفَس، وهذا هو القاسم المشترك بينه وبين السنوار القائد. كان يُمكن للشهيد حيدر أن يكون طالب دراسات أكاديمية عليا لا طالب شهادة، أو أن يختار أي مجالٍ من المجالات المدنية في حزب الله وما أكثرها، أو أي اختصاص في المقاومة بعيداً عن ساحات الجهاد، وما أعظمها، ولكنه اختار ما هو أعظم وأقصر للوصول إلى إحدى الحسنيين، فكان له ما أراد وأكثر، إذ رُزِق بهما معاً، حين انتصر فرداً على جمعهم، وحين استشهد مدوياً بشهادته.

في الجنوب الفلسطيني كان بمقدور الشهيد يحيى السنوار أن يؤخر شهادته المحتومة لتكون في متاهة من متاهات الأنفاق التي تابع وواكب حفرها تحت أرض غزة، وأن يحتمي بأسرى العدو الذين خطّط بنفسه لعملية أسرهم في “طوفان الأقصى”، لكنه اختار جغرافية شهادته بنفسه، فوق الأرض أولاً، وفي واحد من شوارع غزة ثانياً، وفي أحد منازلها ثالثاً، وعلى أريكة زهرية متهالكة رابعاً، في مشهديةٍ رباعية الأبعاد ما بين الأرض مسقط الرأس، والحي بيئة المقاومة، والمنزل مختزل الوطن والأريكة مستقر الأيام.

وفي الجنوب اللبناني، كان بمقدور الشهيد ابراهيم حيدر، أن يكون ذا مهنة يعتاش ويعيل منها، وكان بمقدوره أن يأخذ نصيبه من الدنيا إلى ما شاء وشاء الله، وكان بإمكانه أن ينال من متاع الدنيا ما لذَّ له وطاب، بعيداً عن الحروب والرصاص والموت والدمار وغيرها من تعابير أهل الدنيا وخصوصاً أولئك الذين يدّعون حب الحياة على طريقتهم، ولا يفقهون ذرّةً من حبه لها على طريقته، لكنه اختار طريق الآخرة سبيلاً أقصر لذلك، ولأنه محبٌ للسلام، آثر القيامة على السلامة، واختار طريق المقاومة لدفع العدوان عن الوطن بدمه وحياته وروحه حتى النفَس الأخير والرصاصة الأخيرة.

وما بين الجنوبَين الفلسطيني واللبناني، تحضر كربلائية المشهد إذ يقاتل السنوار- القائد ملثماً بكوفيته الفلسطينية وحيداً، قالت له يا يحيى خذ السلاح بقوة، وقاوم، ففعل حتى أُثخِن بالجراح، لكنه حملها وظل بها يقاتل حتى الرمق الأخير، ويجلس معالجاً جراحه وهو يجود بنفسه في آخر لحظات حياته، ينسى يُمناه المقطوعة كَيَدِ العباس، يرمي “درون” العدو بعصاه الخشبية، آخر ما حملته يداه، يحار الجنود في أمره، يكثرون الرمي نحوه، فلا يرون عليه غلبةً غير دباباتهم ترميه وتدمّر البيت عليه، ظناً منهم أن إلغاء البنيان يلغي المكان، لكن السنوار يلغي إلغاءهم، إذ يقضي نحبه مختلطاً بالمنزل، فلا تميزه أكان يحتضنه أم كان هو محتضاً حجارته، أما الدم فإلى الأرض ينزل ليروي عطشاً مستداماً للتحرر من ثقل الاحتلال الرابض على جغرافيتها وتاريخها.

إقرأ على موقع 180  إيران وإسرائيل من حافة الهاوية.. إلى "حرب الظلال" مجدداً!

وفي الجنوب اللبناني، يدافع الشهيد ابراهيم حيدر عن أرضه، يقاوم الغزاة في تلك القرية على حدوده، يرمي أقصى القوم بقاذفه، يصيب قلب دبابتهم التي يحتمون بها، يستبدل سلاحه، سلاح الدبابات، إلى سلاح الأفراد الرشاش، يأخذ وضعية المُدافع وقوفاً، ويكمل كصياد الطيور في اصطيادهم غير عابئ بعددهم، ولا مكترث بقوتهم، تماماً لكأنه يتسلى بهم طلقةً طلقة وعلى مهله، قال أحد جهابذة المحللين إن السبب قلة الذخيرة وخوفه من نفاذها، متجاهلاً أثقال الذخيرة التي كان مدججاً بها على صدره وأحمالها الثقيلة على ظهره، والأخرى إلى جانبه، وهو على مدخل البيت الذي لا يعلم ما في داخله الا الله والراسخون في المقاومة، لكن أحداً لن يفقه سرّ هدوئه، وبرودة أعصابه، وعمق ثقته بنفسه وبربه، إلا الذين عرفوه عن كثب وقالوا “كم هو قبضاي معروف في ساحات القتال” ومشهد الجنود الذين عجزوا عن أن يصلوا اليه أو يقتلوه يوثق ذلك، برغم تكاثرهم عليه من كل جانب، تكاثر أهل الكوفة على مسلم، وهم مدججون بأحدث أسلحتهم، ودباباتهم، وطائراتهم، ومُسيّراتهم، فلا يجدون مفراً منه غير الاستغاثة بواحدة منها، لتقصف البيت الذي هو فيه بصاروخ مدمّر لا يُبقي ولا يذر، يخلط هذا النوع الفريد من البشر بالحجر، ويجعله مفقود الأثر، إلا عند مليكٍ مقتدر، وكم الف على نسق ابراهيم “ينتظرون وما بدّلوا تبديلا”؟

لكن أعجوبة المشهد وغرابته وفرادته تزداد ألَقاً وتألقاً ، عندما نكتشف أن الشهيد ابراهيم حيدر كتب في تغريدة على حسابه في تطبيق “إكس” بتاريخ 12 تشرين الأول/أكتوبر 2017:

“والله لو لقيتهم فردًا، وهم ملء الأرض ما باليت ولا إستوحشت”.

جواب الختام ما بدأ به الشهيد السنوار وصيته الأخيرة للأجيال الآتية:

“أنا يحيى، ابن اللاجئ الذي حوّل الغربة إلى وطن مؤقت، وحوّل الحلم إلى معركة أبدية..

أنا الرجل الذي نسجت حياته بين النار والرماد.. 

تعلمتُ في شوارع غزة أن الإنسان لا يقاس بسنوات عمره، بل بما يقدمه لوطنه..

إنهم يخشون صمودكم أكثر مما يخشون سلاحكم..

 إذا سقطت، فلا تسقطوا معي، بل احملوا عني رايةً لم تسقط يوماً، واجعلوا من دمي جسراً يعبره جيلٌ يولد من رمادنا أقوى”.

Print Friendly, PDF & Email
غالب سرحان

كاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  الأردن مملكة "تستقر" على فوهة بركان.. وبركان من الهواجس