“ما بيشبهونا”.. و”عقدة الخواجة”!

قبل حرب إسرائيل الشعواء على لبنان بأشهر قليلة، وخلال فترة حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة، تردّدت عبارة "هودي جماعة ما بيشبوهنا ونحن ما منشبهون"، في إشارة منهم إلى بيئة المقاومة تحديدًا، ما دفع ببعض هذه البيئة للرد بعبارة: "طبعًا نحنا ما منشبهكون، وشبابنا حلوين مثقفين متعلمين وأكيد ما بيشبهوا حدا"!

لطالما كان لبنان يخضع لمزيج من الثقافات المتناقضة تاريخياً، وهذا في صلب التكوين اللبناني، وذلك بسبب موقع البلد الجغرافي المتميّز بين الشرق والغرب، ناهيك عن تركيبة لبنان الديموغرافية والتعدّدية التي جعلت منه أرضًا خصبة للمشاريع الاستعمارية التي ألقت بظلها على ثقافة اللبنانيين، حيث كانت تتكىء الطوائف على المستعمرين والعكس صحيح، في لعبة تخادم متبادلة. وبحسب الوقائع التاريخية، تلقف قسمٌ من اللبنانيين التأثيرات الثقافية الغربية وتفاعلوا معها قيميًّا وسلوكيًا ومعيشًيا بشكل مختلف عن قسم آخر من المجتمع اللبناني كان أكثر تفاعلاً مع الذهنية الشرقية التقليدية.

أدى التطور التكنولوجي والفضاء السيبراني المفتوح (انترنت ووسائل تواصل إلخ..) إلى نزوح العالم نحو قرية كونية واحدة تتشارك العديد من القيم والأفكار المشتركة، إلا أن “عقدة الخواجة” في لبنان ظلّت متحكمة بثقافة فئة استمرت تُخاطب الآخرين بازدراء لهم ولإرثهم الثقافي والقيمي كأنهم أصحاب معطفٍ بالٍ هو “معطف أكاكي” الذي كان محط سخرية دائمة (عبارة “معطف أكاكي” مأخوذة من رواية “المعطف” للكاتب الروسي نيكولاي غوغول).. لكأن هذه الفئة تريد أن تستمر أسيرة جل ثقافي بدل الاندماج في عالم أكثر اتساعًا.

و”عقدة الخواجة” أو ما يعرف بـ”متلازمة الخواجة” هي واحدة من مركبات النقص نجدها عند بعض الأفراد والجماعات ومنها النخب، وتعكس مفهومًا يُعبّر عن حالة الـ”نحن” و”الآخر”، أي الشعور بالنقص بين إنسان ما (أسود البشرة، من طبقة اجتماعية دنيا، عربي، إفريقي، أسيوي إلخ).. وبين إنسان آخر درجت العادة أن يكون غربيًا (أميركيًا أو أوروبيًا أو أبيض البشرة إلخ..)، وهذه المتلازمة تعبّر عن رفض شريحة لشريحة أخرى وبالتالي تعمد التقليل من شأنها ومن أفكارها ومعتقداتها. “عقدة الخواجة” لا تقتصر على الأفكار بل تنسحب على السلوك كالتباهي بالمنتوجات والماركات الغربية والتقليل من شأن الصناعات والمنتجات المحلية أو الشرقية من مأكولات وملابس ومفروشات وعطور ومعدات صناعيّة مختلفة.. إلخ، وعلى القاعدة الشائعة نفسها “كل شي فرنجي برنجي”.. حتى لو كان مستعملًا.

وترتبط هذه العقدة أيضًا بشعور المرء بأن ثقافته أقل شأنا من ثقافة الغرب حيث يتم تناقل المنشورات لكتاب ومفكرين وعلماء أجانب وباللغة الأجنبية أحيانًا، حتى أن الباحث العربي عليه أن يستقي من دراسات الغرب لكي يُثري بحثه العلمي في جامعته الوطنية التي ربما تضاهي الجامعات الأجنبية وخصوصًا من ناحية الأدمغة الموجودة وإقبال الشباب على التحصيل العلمي!

ولا مناص من الإشارة إلى وجود أسباب أخرى تُعزّز من تعاظم “عقدة الخواجة” عند العرب ومنها التفوق التكنولوجي الغربي في كافة الميادين، وهو أمر لا يُنكره أحدٌ منا، ويزيد الطين بلة بروز مشاكل أخرى لجهة غياب دولة القانون وتفشي منظومة الفساد وكل ذلك كان سببًا في هجرة أصحاب الكفاءات من بلداننا باتجاه الغرب.

وفي لبنان، ساهم الانقسام السياسي ـ الطائفي في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 والذي يستمر حتى يومنا هذا، في تأصيل “عقدة الخواجة” في المجتمع اللبناني، فكلما واجهنا مشكلة داخلية أو مع عدونا الإسرائيلي، إنبرى فجأة خطاب الموت والحياة.. وتبدت “عقدة الخواجة” بحلة جديدة، مثل التسليم بأمر تفوق إسرائيل العسكري والتكنولوجي وأنه لا حول لنا ولا قوة إلا أن نستسلم ونُهزم..

لا شك أن حرب الإبادة التي تتعرض لها غزة وحرب إسرائيل ضد كل مقومات الحياة في لبنان تحمل في طياتها ترسبات من مخلفات تلك النظرة نحو بلادنا والتي قد نكون ساهمنا في ترسيخها جميعًا بشكل أو بآخر، حتى أن بعض النخب الغربية تدرك الحقائق أكثر منا، ومن هؤلاء مدرب فريق “مانشستر سيتي” الإنكليزي بيب غوارديولا الذي قال مؤخرًا “إن ما يحدث في العالم اليوم من حروب فظيعة يعود في المقام الأول لاعتقادنا أننا أفضل من الآخرين، وهذا ليس حقيقيًا”.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  أولادنا مجرد مستخدمي تكنولوجيا أم صُنّاعاً لها؟
سلوى الحاج

أخصائية نفسية، لبنان

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  بيروت التي أبهرتنا.. وما تزال