في أيار/مايو الماضي، طلب مدعي عام المحكمة كريم خان من مكتب الإدعاء في المحكمة الجنائية اصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم إنسانية في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. كما طلب اصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية (الذي اغتالته إسرائيل في طهران في 31 تموز/يوليو الماضي)، ورئيس الحركة في غزة وقتذاك يحيى السنوار (الذي سقط في مواجهة مع قوة إسرائيلية في رفح في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وقائد “كتائب عزالدين القسّام” محمد ضيف، الذي تقول إسرائيل إنها قتلته في وقت سابق من هذا العام، بينما لم تؤكد “حماس” ذلك. ولذلك عاودت المحكمة اصدار مذكرة اعتقال بحق الضيف يوم الخميس الماضي.
مارست الإدارة الأميركية الحالية والكونغرس ضغوطاً قوية على المحكمة الجنائية، كي لا تصدر مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت، إدراكاً منها لحجم التأثير القانوني والسياسي والمعنوي الذي سينجم عن مثل هذا الإجراء. أما إسرائيل فاعتبرت أن المحكمة ليست صاحبة اختصاص للنظر في الحرب على غزة، لأن الدولة العبرية لم تصادق على نظام روما الأساسي الذي أنشئت بموجبه المحكمة عام 2002. لكن المحكمة أجابت بأن دولة فلسطين التي وقّعت على النظام عام 2015، تُخوّلها النظر في القضية كون غزة جزءاً من هذه الدولة.
أدى قرار المحكمة إلى استنفار إسرائيل بكامل أطيافها، وسرعان ما استحضر نتنياهو “قضية ألفريد درايفوس”، الضابط اليهودي الذي حُوكم في فرنسا عام 1894 بتهمة الخيانة ومن ثم بُرّئت ساحته في ما بعد، إلى التذكير بسردية معاداة السامية، في حين استحضر وزير المال المتطرف بتسلئيل سموتريتش مثلاً توراتياً، مُشبهاً المحكمة بأنها “قايين” الذي قتل أخاه هابيل، وحتى زعيم حزب العمل المعارض المحسوب على اليسار يائير غولان قال إن القرار “معيب”.
رحلة نتنياهو الدولية انتهت!
لا شيء في تاريخ المحكمة يُشير إلى أنها اتخذت قرارها على خلفية معاداة السامية، كما يزعم القادة الإسرائيليون. وباستثناء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم تصدر المحكمة منذ إنشائها عام 2002 سوى مذكرات اعتقال بحق قادة أفارقة بينهم الرئيس السوداني السابق عمر البشير. ولم يكن متوقعاً أن تذهب المحكمة إلى حد التجرؤ على إسرائيل التي تُعتبر أوثق حليف للولايات المتحدة. ولذا، فإن من شأن القرار أن يُعيد تشكيل النظرة إلى المحكمة في الجنوب العالمي.. وكذلك في الغرب على حد سواء.
وأوقعت مذكرتا الاعتقال الولايات المتحدة في حرج كبير وأثبتت اعتمادها المعايير المزدوجة في العدالة الدولية. إذ سارعت إدارة بايدن إلى الترحيب بمذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 18 آذار/مارس 2023 بتهمة ارتكاب جرائم بزعم نقل أطفال أوكرانيين من أوكرانيا إلى روسيا، ودعت الدول الأعضاء في المحكمة إلى تنفيذ المذكرة.
لا أحد يتوقع أن يُلقى القبض على نتنياهو أو غالانت، ولن تؤدي مذكرتا الاعتقال إلى وقف الحرب على غزة. لكن للاتهامات آثاراً بعيدة المدى. فإسرائيل ستتعمق عزلتها، وستكون أكثر اعتماداً على الولايات المتحدة. وليس بالأمر الهيّن أنه يتعين على نتنياهو وغالانت منذ الآن فصاعداً تجنب المرور في 124 دولة موقعة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وبينها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، باستثناء المجر والنمسا وتشيكيا التي تضامنت مع إسرائيل، بينما أعلنت فرنسا وإيطاليا وإيرلندا وإسبانيا التزامها المذكرة. ومع ذلك يُتوقع أن تبقي ألمانيا وبريطانيا مساحة بينها وبين تنفيذ المذكرة، علماً بأنهما من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي.
وكتب النائب السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي إيران إيتزيون أن “رحلة نتنياهو انتهت كزعيم شرعي على الساحة الدولية”. وقال الباحث في معهد إسرائيل للديموقراطية يوفال شاني، إن من شأن القرار أن “يرسم سردية لبلد لا يلتزم القانون الدولي، وتالياً هناك شرعية متزايدة، لعزله”.
وفي محاولة لتفادي الوصول إلى هذه النقطة، سبق للنائبة العامة الإسرائيلية غالي باهاراف-ميارا، أن طلبت من نتنياهو تشكيل لجنة تحقيق رسمية للنظر في أحداث غزة، لكن طلبها قوبل بالتجاهل، وهذا ما أشار إليه القرار الصادر عن المحكمة الجنائية.
وانتقد الكثيرون من المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين المدعي العام في المحكمة كريم خان لطلبه في أيار/مايو اصدار مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت بينما كان أعضاء مكتبه يستعدون لاجتماعات مع مسؤولين إسرائيليين لشرح وجهة نظرهم من الحرب. لكن خان أجاب بأنه منح إسرائيل متسعاً من الوقت من دون أن يتلقى منها أية إجابات عن الأسئلة التي طرحها عليها.
لا أحد يتوقع أن يُلقى القبض على نتنياهو أو غالانت، ولن تؤدي مذكرتا الاعتقال إلى وقف الحرب على غزة. لكن للاتهامات آثاراً بعيدة المدى. فإسرائيل ستتعمق عزلتها، وستكون أكثر اعتماداً على الولايات المتحدة. وليس بالأمر الهيّن أنه يتعين على نتنياهو وغالانت منذ الآن فصاعداً تجنب المرور في 124 دولة موقعة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية
أميركا أكثر إسرائيلية من إسرائيل نفسها!
وتتوعد إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب “برد قاس” على المحكمة الجنائية، قد تشمل عقوبات على أفرادها والتضييق عليهم. وقال السناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الحليف لترامب، إن المحكمة الجنائية هي “منظمة مارقة ومسيسة”، معتبراً أن مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت تُرسيان سابقة لملاحقة الولايات المتحدة في المستقبل.
ولا يقل الديموقراطيون حماسةً عن الجمهوريين في إظهار التنديد وشن الحملات على المحكمة. وقال السناتور عن ولاية ديلاوير كريس كون المعروف بانتقاداته لنتنياهو، إن الإجراء الذي اتخذته المحكمة الجنائية خاطىء”.
وقد صوّت يوم الأربعاء الماضي فقط 17 سناتوراً ديموقراطياً من أصل 47 في مجلس الشيوخ لمصلحة مشروع قرار تقدم به السناتور المستقل بيرني ساندرز لتقييد مبيعات الأسلحة لإسرائيل بسبب انتهاكها للقانون الإنساني الدولي في غزة. وقبل ذلك بيوم واحد، استخدمت واشنطن حق النقض “الفيتو” ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يطالب بوقف فوري للنار في غزة، بينما أيّده الأعضاء الـ14 الآخرون في المجلس. وهذا “الفيتو” هو الرابع الذي تستخدمه أميركا ضد مشاريع قرارات دولية تدعو إلى وقف النار في غزة.
والأسبوع الماضي، خلص تقويم أميركي أعدّته وزارتا الخارجية والدفاع إلى أن لا أدلة على أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي الإنساني في غزة وخصوصاً على صعيد توفير المساعدات الإنسانية، وتالياً لا حاجة إلى تقييد مبيعات الأسلحة إليها.
وكان وزير الخارجية أنطوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن بعثا برسالة إلى نظيريهما الإسرائيليين، الشهر الماضي، في ذروة الحملات الانتخابية الرئاسية، طلبا فيها زيادة إدخال شاحنات المساعدات الإنسانية إلى القطاع، ومنحا إسرائيل شهراً لتفعل ذلك. ولم تعدُ الرسالتين كونهما محاولة من إدارة بايدن لإظهار اهتمامها بالسكان في القطاع، من أجل كسب تأييد أصوات العرب والمسلمين الأميركيين، الذين أعلنوا رفضهم التصويت للمرشحة الديموقراطية كامالا هاريس.
سقوط سردية المظلومية الإسرائيلية
وفي 17 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، خلصت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة في تقرير لها، إلى أن إسرائيل “تتسبب عمداً في الموت والتجويع والإصابات الخطيرة” في غزة، متهمة إياها باستخدام “التجويع كأسلوب من أساليب الحرب وفرض عقاب جماعي على الفلسطينيين”.
وقد استندت المحكمة الجنائية الدولية إلى هذا التقرير وغيره من التقارير الأممية التي تتحدث عن المجاعة في غزة وانهيار القطاع الصحي. وهذا الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل يقول الأسبوع الماضي، عشية توجهه إلى المنطقة: “هناك نحو 44 ألف قتيل في غزة و70 في المئة من هؤلاء القتلى نساء وأطفال”، مضيفاً: “حين ننظر إلى أعمارهم، فهم في غالب الأحيان أطفال دون التاسعة من العمر..”. ولهذه الاعتبارات كان أول تعليق لبوريل على قرار المحكمة الجنائية الدولية، أن “هذا قرار قضائي وغير مسيس وهو ملزم لكل الدول الأعضاء في الاتحاد”. وبوريل نفسه كان دعا إلى تعليق الحوار السياسي مع إسرائيل. وقال قبيل أسابيع قليلة من انتهاء مهامه إنه “في كل مرة يختلف فيها أحد مع سياسة حكومة إسرائيلية معينة، يتم اتهامه بمعاداة السامية”!
وقرار المحكمة الجنائية الدولية منفصل عن الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة في حربها على غزة. وبذلك تتسع دائرة الطعن بشرعية إسرائيل وكذلك عزلتها على المسرح العالمي، وتجر معها الولايات المتحدة إلى هذه العزلة.
تجدر الإشارة إلى أنه في خضم الجدل الذي كان دائراً حول مذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت، فُتح فجأة تحقيق الأسبوع الماضي في قضية تزعم أن كريم خان تحرش جنسياً بموظفة في المحكمة الجنائية. ونفى خان إقدامه على أي سلوك من هذا النوع وأعلن ترحيبه بإجراء تحقيق معه. وفي الوقت نفسه، توالت الإتهامات الإسرائيلية إلى خان والمحكمة الجنائية “بمعاداة السامية”
وفي الوقت الذي أخفق فيه مجلس الأمن بوقف الحرب على غزة، فإن المحكمة الجنائية الدولية سيُنظَر إليها على نطاق واسع، وخصوصاً في الجنوب العالمي، باعتبارها مدافعاً أكثر فعالية عن ميثاق الأمم المتحدة.
وعبّرت الأستاذة المساعدة في التاريخ الدولي بجامعة أوتريشت إيفا فوكوشيتش عن هذا الواقع قائلة لصحيفة “الغارديان” البريطانية إن هذه المجموعة من مذكرات الاعتقال “تُعتبر رائدة لأنها، لأول مرة في حالة إسرائيل، تشمل حليفاً موثوقاً من قبل الأعضاء الدائمين الغربيين في مجلس الأمن، الذي كان، حتى الآن، شبه معفى من التدقيق القضائي الدولي”.
غير أن النقطة الأهم تتصل بالآثار البعيدة المدى لقرار المحكمة الجنائية، وأبرزها سقوط سردية المظلومية الإسرائيلية في العالم.