

أول زيارة عمل للاريجاني بصفته السياسية والرسمية الجديدة كانت لبغداد من أجل التوقيع علی اتفاقية أمنية تتعلق بالأمن علی حدود البلدين المشتركة وقضايا متعلقة بمواجهة الارهاب وتجارة المخدرات وما يتصل بذلك من مخاطر تهم أمن واستقرار البلدين.
الزيارة الثانية كانت لبيروت للتأكيد مجدداً علی احترام طهران القرار اللبناني وعدم الرغبة في التدخل في الشأن الداخلي اللبناني، حيث أكد علی ضرورة احترام إرادت الطوائف اللبنانية المختلفة ودعم العيش المشترك بعيداً عن الاملاءات الخارجية ولا سيما الأميركية.
الزيارة الثالثة كانت للرياض وجاءت في إطار استكمال المناقشات التي تخللت الزيارة النوعية التي قام بها الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي إلى طهران قبل أشهر قليلة وسلم في سياقها رسالة من الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى المرشد الإيراني السيد علي الخامنئي في منتصف شهر أيار/مايو الماضي، وهي أرفع زيارة لمسؤول سعودي إلى العاصمة الإيرانية منذ العام 1999. بالمقابل، حملت زيارة لاريجاني دلالات تجاوزت مجرد اللقاء الديبلوماسي العادي مع صُنّاع القرار السعودي وجاء ضمن مسار دشّنه اتفاق بكين في شتاء العام 2023.
والملاحظ أن لاريجاني تحرك بين ثلاث عواصم عربية مرتبطة بشكل أو بآخر بأمن الجمهورية الإسلامية القومي، أقله من وجه نظر بلاده، وكان الهدف منها إعادة صياغة وتثبيت منظومة المصالح التي تجمع طهران بهذه العواصم لا سيما في ضوء التطورات والتحديات التي تواجه المنطقة خصوصاً غداة الإستهداف الإسرائيلي لقيادة حركة حماس في العاصمة القطرية؛ ناهيك عن مسار دشّنه السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 (طوفان الأقصى) وبلغ ذروته مع سقوط النظام السوري في خريف العام 2024 وتطلع الكيان الإسرائيلي من بعد ذلك نحو “شرق أوسط جديد” ينسجم بمقاساته الأمنية والسياسية، مع ما صرّح به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن “إسرائيل الكبری” التي تريد أن تستحوذ على نصف الأراضي المصرية وتحديداً ضفتي النيل، وقسم من الأراضي السعودية، والأردن بأكمله، ولبنان أيضاً، والأراضي الواقعة جنوب نهر الفرات في سوريا والعراق، وبالمختصر “من النيل الی الفرات”، حسب التفسير اليهودي للتوراة.
لم يأتِ اختيار الرياض وجهة ثالثة للمسؤول الإيراني بالصدفة. كانت المملكة العربية السعودية في مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع إيران في العديد من الساحات الجيوسياسية في السنوات الأخيرة – من اليمن وسوريا إلى لبنان والعراق. ومع ذلك، أدرك كلا البلدين أن تحويل هذه المواجهات إلى تدافع سياسي أمني يضر بالطرفين. فقد كانت كلفة حرب اليمن مكلفة لليمنيين ولكل شعوب المنطقة، ما جعل البلدين يتوصلان إلی التوقيع علی اتفاق بيجينغ في العاشر من مارس/آذار 2023 والذي تم في اطاره إعادة فتح السفارات وعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
جاءت زيارة علي لاريجاني إلى الرياض بعد حوالي الأربعة أشهر من زيارة خالد بن سلمان إلى طهران. توقيتها تزامن مع العدوان الاسرائيلي علی دولة قطر واستمرار حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة وضد الشعب اللبناني وتحول جنوب سوريا إلى ساحة للعربدة الإسرائيلية، فكان لا بد من تدارس أبعاد هذه الاعتداءات الإسرائيلية التي لا تعترف بالحدود والجغرافيا والتي تحظى بغطاء أميركي مكشوف.
وللتذكير فقط، فإن اللقاءات التي أجراها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع وزيري الخارجية، الراحل حسين أمير عبد اللهيان والحالي عباس عراقجي، وما طرحه من أفكار وتصورات لاقت ارتياحاً كبيراً لدی طهران وهو الأمر الذي تم التأكيد عليه خلال اللقاء المهم الذي جری بين المرشد الخامنئي والأمير خالد شقيق ولي العهد السعودي.
وتقول مصادر مواكبة إن مباحثات لاريجاني في الرياض “تناولت الاعتداءات الإسرائيلية وتداعياتها ومخاطرها الأمنية والسياسية على كل دول المنطقة، إضافة إلی التعاون في مجال أسواق الطاقة” كما تمت مناقشة ملف المفاوضات الإيرانية الغربية بعد تفعيل “آلية الزناد”، والتي تحتاج الی تفاعل مباشر بين طهران والرياض في ظل توافر إرادة مشتركة لتفعيل التعاون الثنائي بين البلدين.
المهمة التي حملها الأمير خالد بن سلمان إلى طهران كانت موضوعة علی طاولة المباحثات في الرياض والتي لم تقتصر علی التعاون السياسي والاقتصادي والأمني وإنما أيضاً تناولت التعاون في المجال العسكري. ولم تستبعد المصادر ذاتها امكانية التوقيع علی اتفاقية تعاون بين الرياض وطهران علی غرار الاتفاقية الدفاعية التي تم التوقيع عليها بين الرياض وإسلام آباد، ولربما انضمت طهران إلی الاتفاق الثنائي بين الرياض وإسلام آباد مستقبلاً.
وفي ضوء زيارتي علي لاريجاني إلى الرياض وخالد بن سلمان إلى طهران، تقول أوساط مطلعة إن البلدين يتطلعان إلی صياغة هيكلية جديدة للأمن متعدد الأبعاد في الشرق الأوسط، بدلاً من هيكلية تُحددها فقط ساحات الحروب والأزمات. هيكلية تتكامل فيها السياسة والاقتصاد والأمن العسكري. وإذا ما تحققت مثل هذه الحالة فقد تُبشر بعهد جديد في العلاقات بين طهران والرياض، بل وفي الشرق الأوسط بأكمله؛ حقبة تُفسح فيها المجال لإدارة الخلافات والتعاون في المجالات المشتركة.
وفي المختصر، تكتسب زيارة لاريجاني إلى الرياض أهميةً من جوانب عدة:
أولًا؛ تُظهر هذه الزيارة عزم إيران على تعزيز سياستها مع الجوار الجيوسياسي وتعزيز علاقاتها مع الدول الرئيسية في المنطقة، وبخاصةً السعودية، باعتبارها أحد القوى الفاعلة الرئيسية في غرب آسيا.
ثانيًا؛ تُركز على أهمية التعاون الاقتصادي والدفاعي مدخلاً لإقامة علاقات مستدامة ومتعددة الأبعاد من شأنها أن تُسهم في تخفيف حدة التوترات وتعزيز الثقة المتبادلة.
ثالثًا؛ تُتيح هذه الزيارة، في سياق التطورات الإقليمية، وبخاصةً بعد استهداف الدوحة، فرصةً لمزيد من التقارب بين دول المنطقة في مواجهة التهديدات المشتركة.
وبطبيعة الحال، فإن تشكيل مجموعات عمل مشتركة كما تم الاتفاق في مجال الدفاع، ودراسة استراتيجيات التنمية الاقتصادية، والتركيز على الاستقرار الإقليمي، يُشير إلى نهج عملي واستشرافي من كلا الجانبين.
ما سمعناه عن توفر إرادة لدى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتعميق العلاقات مع إيران وما سمعناه أيضاً من القيادة الإيرانية بشأن تطوير العلاقات وايجاد هيكليات فاعلة في المجالات المختلفة يشير إلی مستقبل واعد للعلاقات السعودية الإيرانية.
(*) يُنشر بالتعاون مع جريدة “الصباح” العراقية