

تعتبر إسرائيل اليوم أن الدعم الأميركي المطلق لها لا يخوّلها فحسب بالاستمرار في الاعتداء على دول الجوار لفلسطين المحتلة فحسب، بل في تطبيق عقيدتها الجديدة التي تسعى لتكربسها منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهي عقيدة إستباقية تقوم على استعراض القوة المفرطة “لإخضاع” ليس فقط الدول المحيطة بها، بل كل المنطقة العربية، بعنوان “القضاء على أي تهديد محتمل” في اي زمان ومكان.
وعلى الرغم من اللغة التي لا تخلو من الجمل الإنشائية المتكررة، يمكن القول بأن القمّة العربية أعادت فعليّاً الزخم العربي والخليجي تحديداً في ما يخص أمن المنطقة العربية، والذي يجب أن تستفيد منه كل الدول العربية لتفعيله لا سيّما مع تصاعد الضغوط الدولية والعزلة الدولية التي بدأت تلوح بالأفق ضد إسرائيل بسبب ارتكابها إبادة جماعية في غزة لمدّة عامين. وإذا كان من وصف يمكن أن يعطى لهذه القمة، فيمكن القول بأنها “قمّة الرسائل التحذيرية واستعادة المبادرة” ليس فقط تجاه إسرائيل لكن أيضاً تجاه الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
أمّا أهم مخرجات قمّة الدوحة فهي:
أوّلاً؛ إعادة التأكيد قولاً وفعلاً بأن منطقة الخليج العربي هي كيان واحد لا يتجزّأ مهما كانت الاختلافات أو المقاربات المتباينة في السياسة والمصالح، وبأن مصلحة أمن الخليج فوق أي اعتبار، والأهم بأن اللعب على الخلافات العربية هو أحد الخطوط الحمر الذي يمنع على إسرائيل أو أي دولة أجنبية تجاوزها، وهذه نقطة ليست تفصيلية بل تقع في صلب الرسائل الموجهة إلى إسرائيل. فالأخيرة ما تنفكّ تستهدف دولة قطر منذ مدّة وبشكل ممنهج عبر مؤسساتها الإعلامية والبحثية وفي تصريحات ممثّليها، فتارة تتهمها بنشر مشروع “الإخوان المسلمين في المنطقة والحركات الإسلامية المتطرفة” وطوراً بدعم ما تسمّيه “معاداة السامية” في المؤسسات التعليمية الأوروبية والأميركية، وغيرها من التهم التي تهدف إلى شيطنة قطر وتصوير دورها على أنه تهديد لأمن المنطقة والعالم! من هنا، يُشكل البيان الختامي للمجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي والذي حمل عنوان “الاعتداء الإسرائيلي على قطر” النقطة الأساس الذي يجب التوقف عندها، إذ من خلاله أعادت الدول الخليجية الإجماع على أن إسرائيل دولة محتلة لا تهدّد فلسطين ودول الجوار لفلسطين فحسب، بل تهدّد المنطقة بأسرها، ما يستوجب مواجهتها بكافة الطرق لوضع حدّ لاعتداءاتها. إذاً، نحن أمام إعادة تصويب عربيّ خليجيّ لمصدر التهديد العربيّ والذي يقرّ بوضوح بأن إسرائيل هي أحد مصادره الرئيسية، وذلك بعدما حاولت الأخيرة استغلال الاتفاقيات الإبراهيمية التي تمّ توقيعها لتسويق نفسها في المنطقة العربية.
ثانياً؛ إعادة التأكيد على دور قطر المحوري في الوساطة في حرب غزة بالشراكة والتعاون مع مصر والولايات المتحدة الأميركية، والتشديد على أهمية هذا الدور. هذا التكريس والإجماع العربي لدور قطر في الوساطة صدر في البيانين الصادرين عن كلّ من مجلس التعاون الخليجي وبيان القمّة العربية-الإسلامية، وهو أتى خلافاً لما كانت تشتهيه إسرائيل.
ثالثاً؛ يشكّل البيانان إعادة قراءة وتقييم للعلاقة مع إسرائيل، وبالتالي ثمة استدراك حول أهمية وضرورة العمل الجماعي العربي المشترك فعلاً وليس من خلال بيانات الشجب والاستنكار. من هنا، تشكّل القمّة العربية والإسلامية فرصة لاستكمال زخم الموقف العربي الموحّد والخليجي بشكل خاص بخطوات سياسية ملموسة استناد إلى أوراق القوة التي تملكها الدول العربية والخليجية وأهمّها:
- إستمرار موقف المملكة العربية السعودية الرافض لإبرام اتفاقية أبراهيمية قبل وقف الحرب على غزة والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
- الضغط العربي بقيادة المملكة العربية السعودية لإتمام وإنجاح الجلسة المرتقبة في نيويورك في ٢٢ أيلول/سبتمبر الحالي بالشراكة مع فرنسا للاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما يشكّل سابقة تضرب شرعية كلّ اعتداءات إسرائيل في كلّ فلسطين وأهمها توسيع الاستيطان في الضفة الغربية وتنفيذ مشروع التهجير الفلسطيني بدءا من غزة والضفة وصولاً إلى فلسطينيي ٤٨ ما يهدّد ليس فقط فلسطين بل أمن المنطقة العربية.
- الموقف المتقدّم لدولة الإمارات العربية المتحدة التي باتت تُعبّر عن رفضها العلنيّ لسياسة إسرائيل الاستيطانية حيث لوّحت بتعليق اتفاقية التطبيع بينها وبين تل أبيب.
- ثبات الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من غزة وبأن مصر لن تكون البوابة لتصفية القضية الفلسطينية، فضلاً عن رسالة التحذير المصرية لإسرائيل بأنها لن تقف مكتوفة اليدين في حال تعرض الأمن القومي المصري لأي استهداف من الجانب الإسرائيلي، تحت أي مسمى كان.
رابعاً؛ إن بند مراجعة أنظمة الدفاع الخليجية المشتركة ليس شأناً أمنياً خليجياً بحتاً، بل هو رسالة أيضاً إلى الولايات المتحدة حول إمكانية إعادة النظر في جدوى الاتفاقيات الأمنية المشتركة والتي لم تحمِ قطر من الاعتداء الإسرائيلي. في هذا الإطار، تعي الدول الخليجية جيداً بأنها تملك أوراق ضغط كثيرة يمكن استخدامها بما يتناسب مع مصلحة وأمن هذه الدول، بدءاً باتفاقيات الدفاع والأسلحة، مروراً من البوابة الاقتصادية بحيث يحتاج ترامب إلى استثمارات الدول الخليجية لإنعاش الإقتصاد الأميركي، وصولاً إلى حاجته إلى استكمال اتفاقيات أبراهام لتحقيق مشروعه الشخصي بتكريسه “رجل سلام” بالقوّة، فترامب بات يُعرف ليس في الدوائر الأميركية فحسب، بأنه رجل الصفقات السريعة الذي يبحث عن صورة المنتصر باستخدام القوّة غير آبه بتبعات سياساته المتناقضة.
خامساً؛ تحذير الدول المعنية في مجلس الأمن والأمم المتحدة من مغبة استمرار إسرائيل في الاعتداء على سلطة القانون الدولي والقول بأن ذلك يمثّل “سابقة خطيرة لا ينبغي تجاوزها أو أن تمرّ دون فرض عقوبات دولية رادعة”. بالطبع، تدرك الدول العربية جيداً بأنه وحتى إشعار آخر لن يتمّ فرض أي عقوبات على إسرائيل في ظلّ الدعم الأميركي المطلق لها، غير أن هذا التحذير الذي تمّ التطرق إليه في البيانين، إنما يُراد منه القول بأن استمرار إسرائيل في ضرب “هيبة القانون الدولي” سيرتدّ على كل الدول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
تنظر إسرائيل بإعلامها وبقيادتها بسخرية إلى القمة العربية، لكنها حتماً فوجئت بحجم الالتفاف العربي السياسي والديبلوماسي حول قطر وإصرار الدول العربية على إنجاح قمّة نيويورك حدّ التلويح بتعليق الاتفاقيات معها. في هذا الإطار، يبقى الأهمّ هو مراقبة ردّة فعل وتعامل الولايات المتحدة الأميركية، وهي الراعية الأولى التي لولاها لما استطاعت إسرائيل أن تستمرّ في حرب الإبادة التي تشنّها على غزة ولا في الاعتداءات المستمرة على سوريا ولبنان وصولا إلى الاعتداء على أمن الخليج من خلال ضرب الدوحة، ولا في التهديد بإسرائيل الكبرى، أكان في اقتطاع أجزاء من دول الجوار أو في تحويل المنطقة العربية إلى “منطقة نفوذ إسرائيلية” كما حذّر أمير قطر في كلمته الافتتاحية.
قبل انعقاد قمّة الدوحة، قالت أميركا كلمتها من خلال وزير خارجيتها ماركو روبيو الذي زار إسرائيل، والافت للانتباه أنه لم يكتفِ بتقديم الدعم وإعطاء الشرعية لمشروع إسرائيل الاستيطاني، بل تكريس سلوك الولايات المتحدة كرأس حربة في مواجهة قمّة الاعتراف بدولة فلسطين في نيويورك. فهل تصلها الرسالة العربية؟