طبقةُ السلطةِ الثلاثيةِ اللبنانية من تحالفِ الإقطاع ِالطائفي القديم، وأربابِ البرجوازيةِ الطائفيةِ، وزعماءِ الدين، تُعْفي نفسَها منَ المسؤوليَّة، بعد واحدٍ وثمانين عاماً كان معدَّل الحروب الداخلية فيها حرباً كلَّ عشر سنوات تقريباً، وتسْتمرِىءُ القولَ: إنَّ لبنانَ كيانٌ وظيفي دوْلي يحتاجُ دائماً إلى وصايةٍ.
بعد مؤتمرَيِّ الرياض وبيت الدين، عام 76 بدأت وصايةٌ أميركية غير مباشرة على لبنان بغطاء عربي. دخلت إليهِ القواتُ المشترَكةُ العربية تحت عنوان: “قوات الردع العربية” التي سرعان ما تحوَّلت إلى قواتٍ سورية. وعندما خرج السوريون من لبنان، وغادر اللواء رستم غزالة، لم تتردَّدِ الطبقة المتنفِّذة عن إلقاء كل أسباب التردِّي والفساد على السوريين، وكأنَّ هؤلاء كانوا يستطيعونَ ذلك وحدَهم من دون أدواتٍ لبنانية.
حالياً حضرَ المفوَّضُ “السامي” الأميركي “ياسبر جيفرز” إلى بيروت إيذاناَ بالوصليةِ الأميركية المباشرة. حاكمٌ عسكري مثل “الجنرال غورو” في دورهِ ونظرتِهِ إلى لبنان وسوريا والعرب. آنذاك قبل مئةٍ وأربعةِ أعوامٍ أعلنَ “غورو” دولة لبنان الكبير، ثمَّ ذهبَ إلى قبر “صلاح الدين” في سوريا وقالَ: ها قدْ عدْنا يا صلاح الدين.. لهجةٌ صليبية- تامَّة.[لا مسيحية] وتقسَّمت سوريا آنذاك. “ياسبر” سيُعلنُ بالتدريج لبنان آخر، وإن ليس بطريقة “غورو”، وليس من قصر الصنوبر الفرنسي طبعاً، فمساعدُهُ الفرنسي الجنرال “غيّوم بونشان” ليس أكثر من “غورو” صغير، لكن” ياسبر” سيتصرَّف ضمن نظرة غورو الاستعمارية إلى وظيفة لبنان من خلال النظرة الأميركية إلى موقع سوريا.
الأسماء مهمة، غير أن هذه الأهمية تسقط بسرعة عندما تأتي كلمة السر الأميركية، وحتى الآن ما زال قائد الجيش الجنرال جوزف عون هو الأقوى، أما أسماء الآخرين فهي رهن قبولهم واستعدادهم وقدراتهم على تنفيذ البرامج التي تضعها واشنطن
اليوم، تبدَّلَ إطارُ المشهدِ البروتوكولي، أمَّا المشهدُ السياسي- الاستعماري فهو نفسُهُ لم يتبدَّلْ. “ياسبر جيفرز” هو مَنْ سيُبلغُ كلمةَ السرِّ لانتخاب رئيس بعد ترتيبات تقودها واشنطن ووراءَها فرنسا والسعودية وتركيا وبرضى روسيا الأوكرانية، وبالتنسيقِ معَ العدوِّ الإسرائيلي عبر قنواتٍ خفيَّةٍ وعلنيةٍ، الآخرون لهُم أدوارهُم في سياق الترتيب الأميركي. والصفقة التي سرَّعت الزلزال السوري هي نفسُها التي ستنتخب الرئيس، لكنَّ الإخراج يحتاج إلى وقت.
لا سياسةَ من دون قراءةِ التاريخ، ولا تاريخَ من دون فهم ِالجغرافيا. وموضوع تعيين رئيسٍ للجمهوريَّة بالانتخاب يقع في قلب هذا التقاطُع.. لم ينتخبْ سكَّانُ لبنان رئيسَهم في أيِّ مرَّةٍ. هكذا توالى الرؤساءُ من بشارة الخوري إلى ميشال عون. قِيلَ كثيراً إنَّ الرئيسَ الراحل سليمان فرنجية جاء بمعادلةٍ لبنانية. فاز بصوت واحدٍ على إلياس سركيس. هذه النظرية غير صحيحة على الأرجح. الأميركيون كانوا موجودين خلف الستار بعيداً جداً عن الأنظار. تقاطعت مصالحُهم ضد عبد الناصر [توفي في 28 أيلول/سبتمبر 1970] في المنطقة مع مصالح شريحة من الزعماء اللبنانيين من أخصام المكتب الثاني [الباقي آنذاك من العهد الشهابي] ومنهم الراحلون: سليمان فرنجية وريمون إده وكمال جنبلاط الذي أعطى صوت الفوز الوحيد لسليمان فرنجية.. إذاً لا معادلة رئاسية لبنانية إلا بالتقاطع مع المعادلات الدولية.
هل من جديد الآن على مستوى هذا المسار في الرئاسات اللبنانية؟
الجواب المؤكَّد: لا .. لا.. القوى النافذة طائفياً وسياسياً تتحرَّك بكثافةٍ لإنتاج تسويقٍ لهذا أو لذاك وفقاً لما تريدهُ واشنطن من المنطقة لا من لبنان فحسْبُ. حساباتُ النفوذِ الطائفي الداخلي هي الأصل. شديدةُ التعقيد، وتشكِّلُ موزاييكاً سياسياً- طائفيا-اقتصاديا مُركّـباً، فالكلُّ يريد حصتهُ، ولا مانع عندهم من الانجرار وراء الوصاية الأميركية. ولكن بعض هذه القوى، كالقوات اللبنانية، يتسرَّعُ ويتجاوزُ الحـدَّ الأدنـى من التوافقاتِ المحليّةِ، ويريدُ أن يتعاملَ بالغلبة والثأر، فيظنُّ أنَّه يستطيع بعد الآليَّة الجديدة للقرار 1701 وبعد سقوط النظام السوري أنْ يلغي دور البيئة الشيعية والوطنية الحاضنة للمقاومة، وأن يعود إلى ما قبل الطائف، وهذا الوهم سيشعل فتيلاً داخلياً خطيراً تصبح الرئاسة أمامه بلا جدوى أو بلا فعاليّة على الأقل.
نحن مقبلون على مرحلة شديدة الدقة والحساسية. ووفقاً للمعطيات المتوافرة، فإنَّ جلسة التاسع من كانون الثاني/يناير المقبل للتعيين الانتخابي الرئاسي ستُعقدُ في موعدِها على الأرجح، لكنَّ احتمالَ حسمِ شخص ِالرئيس ما زال ضئيلاً، ما لم تكتمل في الأسابيع الثلاثة المقبلة، عند الدولة العميقة في واشنطن صورة تفاصيل المشهد الذي تريدُهُ في المنطقة.
الأسماء مهمة، غير أن هذه الأهمية تسقط بسرعة عندما تأتي كلمة السر الأميركية، وحتى الآن ما زال قائد الجيش الجنرال جوزف عون هو الأقوى، أما أسماء الآخرين فهي رهن قبولهم واستعدادهم وقدراتهم على تنفيذ البرامج التي تضعها واشنطن.