أفشلوا نظامنا اللبناني.. “هل نموتُ من أجلهم”؟

للمرّة الأولى في تاريخه، واجه لبنان وما يزال خطر تفكك ما تبقى من مؤسسات الدولة الأمر الذي يُهدّد كل اللبنانيين وليس فئة دون أخرى وإن اعتقدت بعض الأحزاب والتيارات في محطات مختلفة بأن ميزان القوى، أو كفّة الحكم والنفوذ، يميلان لمصلحتها.

يُشكّل موضوع انتخابات رئاسة الجمهورية أحد أوجه الخلل في النظام السياسي وفي إدارة الحياة السياسية في لبنان بعد اتفاق الطائف، والذي بموجبه تمّ نقل السلطة من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعا، أي إلى عدد من الطوائف والمذاهب المنقسمة على نفسها أولاً، قبل أن تنقسم في ما بينها حول عناوين كثيرة تبدأ بهوية لبنان ودوره ولا تنتهي بالتناحر على الحصص والفساد.

غداة توقيع اتفاق الطائف في العام ١٩٨٩، أراد الرئيس الشهيد رفيق الحريري المضيّ قدماً بمسيرة الإعمار دون أي عائق، فبدل إعادة تأهيل المواطنين الذين ضلّلوا وشاركوا بالحرب الأهلية ودمجهم لاحقا بمؤسسات الدولة، جرى توزيع جوائز ترضية لرؤساء المليشيات والطوائف عبر توزيع المناصب والوزارات والحصص عليهم بمباركة وتغطية من نظام الوصاية السوري السابق، ما أنتج عمليّاً مأسسة لعمليّة الفساد والحكم البعيد كل البعد عن ثقافة بناء الدولة والمؤسسات، وهو ما أوصلنا إلى ما نحن عليه من انهيار بفعل سرقة العصر في لبنان، من المحاصصة وصولاً إلى نهب ودائع الناس بحماية الطبقة نفسها، الحالية وسابقاتها وتلك المستقيلة والمعتزلة والمعتكفة سياسياً حتى إشعار آخر.

ولا يعي السياسيون بدءاً من المسيحيين أولاً وصولاً إلى المذاهب الإسلامية المختلفة، السنية والشيعية والدرزية، خطورة جعل الاستحقاق الرئاسي وكل استحقاق آخر مناسبة لفرض شروط تناسب مجموعات معيّنة، وبالتالي تحويل ذلك إلى عرف وأداة في الصراع السياسي الداخلي الذي لا ينتهي، والذي لا تنخرط فيه الطوائف اللبنانية حصراً، بل يتحوّل، كما عند كل إشكال أو استحقاق، إلى فرصة لإستدراج الخارج وتحويل البلد ساحة اشتباك بين المحاور الإقليمية والدولية لتصفية حساباتها أو لفرض واقع جديد معيّن يُناسبها ويُناسب “الحلفاء” في لبنان، ما يقضي على كلّ ما تبقّى من هيبة وموقع لمؤسسات الدولة ورجالاتها.

وفي هذا الإطار، لا بدّ من التذكير كيف أن اللبنانيين مراراً عبّروا عن عدم تأثّرهم سلباً جرّاء فراغ موقع الرئاسة الأولى لسنوات عدة، مثلما يستمر واقع تصريف الأعمال حكومياً لسنوات، وهو أسوأ ما يُمكن أن يحدث في حياة الدول.

مراجعة الطائف

انطلاقاً ممّا تقدّم، وفي مراجعة شاملة لمسار الدولة اللبنانية منذ اتفاق الطائف حتى يومنا هذا، يتبيّن مدى فشل السلطات السياسية المتعاقبة على اختلافها، سواء في زمن الوصاية السورية (1990-2005)، أو عندما احتاج لبنان في مرحلة معيّنة إلى تدخّل عربي جديد، وتحديداً من بوابة قطر في “اتفاق الدوحة” في العام 2008 والذي هدف إلى منع الانهيار الكلّي، السياسي والأمني، في لبنان ونجح في تحقيق تلك المهمة ولو أنها لم تدم أكثر من سنتين ونصف السنة.

غير أن الوقائع اللبنانية القاسية تُحتّم القيام بمراجعة لاتفاق الطائف، مع الاعتراف بأنّه لم يُطبّق بالشكل المطلوب، وبوجود حاجة ماسة لتطويره أو حتى طرح صيغة عقد إجتماعي جديد لأن الطائف بشكله الحاليّ الذي تعكسه طبيعة إدارة الدولة من قبل الأحزاب والمرجعيات السياسية الموجودة وتلك الدينية والطائفية، لم يعد صالحاً لا سيّما أنه فشل في منع الانقسامات السياسية التي دائماً ما تتخذ عناوين طائفية ومذهبية تمنع الحوكمة الرشيدة، وفي حال نجحت الأحزاب في إدارة شؤون البلاد، فيكون ذلك عبر المحاصصة وسياسة التنفيعات بأسماء متعددة حقيقية ووهمية نتيجة مأسسة الطائفية ونظام المحاصصة الذي يحكم البلد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي استمرّ من دون ضوابط بعد ٢٠٠٥ وبشكل غير مسبوق حتى في تاريخ الفساد العالمي.

لبنان منهوب، وينقصه القرار والإرادة وليس الموارد المتوافرة أساساً متى عرفنا استثمارها لخدمة الصالح العام. أمامنا فرصة قد لا تتكرّر، وصوتنا وحضورنا نحن الشباب يجب أن يصل إلى الداخل والخارج، حتى لا نخسر بلدنا مرة جديدة، وحتى لا يُكتب عنّا في الصحف الأجنبية بعد سنوات: “لقد ماتوا من أجل هؤلاء”

ويتطلع اللبنانيون إلى نظام تُدار فيه مؤسسات الدولة على أساس القانون وليس المنافع والمحاصصة الحزبية والطائفية، ويحتاج إلى نظام يكون فيه الحكم للقانون لمنع أي فريق مهما بلغ نفوذه من عرقلة أو تعطيل أي استحقاق دستوريّ، ويحتاج إلى أحزاب وممثّلين يضعون الخطط والبرامج وتطبيقها بالقانون والدستور، وليس الشعارات والاعتماد على شخص “الزعيم” وخصاله الشخصية كما هو الحال الآن!

من يتحمل مسؤولية الانهيار؟

عند كتابتي لأطروحة الدكتوراه حول “القيادة السياسية السنية في لبنان ١٩٧٩-١٩٩٠”، استطعت الإطلاع على جزء من محاضر الجلسات التي رافقت مؤتمريّ جنيف ولوزان في العامين ١٩٨٣ و١٩٨٤ والمناقشات التي سادت في مفاوضات اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أي محاضر الجلسات التي نشر بعضها وما تخللها من شروط وأخرى مضادة بين الأحزاب والمجموعات المتقاتلة والتي لاحقاً تصدّرت المشهد السياسي حتى يومنا هذا بالشراكة مع مجموعات وتيارات وأحزاب أخرى برزت في التسعينيات (أيضاً حتى يومنا هذا) وجميعهم من دون استثناء يتحمّلون مسؤولية الانهيار السياسي والاقتصادي الذي وصلنا إليه. آنذاك، أي خلال مفاوضات مؤتمر الطائف، كان لبنان يرزح تحت نارين: الأولى، داخلية بفعل استمرار الحرب الأهلية بتداخلاتها الإقليمية والدولية؛ الثانية، خارجية وتحديدا إسرائيلية. وما بين النارين، كانت بعض الدول العربية والغربية آنذاك مستفيدة من هذا الاقتتال لفرض واقع جديد يناسب مصالحها، من خلال دعم تيّارات وأحزاب ومجموعات وشخصيات معيّنة واستغلالهم عند الحاجة وبخاصة في مراحل التسويات الإقليمية والدولية.

إقرأ على موقع 180  في 4 آب.. نجا مَن مات ومات مَن نجا!

وخلال مفاوضات اتفاق جنيف، عنونت صحيفة فرنسية صفحتها الأولى آنذاك بعبارة “لقد ماتوا من أجل هؤلاء”، في إشارة إلى مضمون محادثات السياسيين اللبنانيين في وقت كان يعاني اللبنانيون من اقتتال داخلي واحتلال إسرائيلي وأزمات اجتماعية واقتصادية متعددة. فقد أمضى السياسيون آنذاك خمسة أيام يتناقشون في مسألة واحدة وهي هوية لبنان دون أن يتفقوا إلا على تشكيل لجنة للمتابعة، في حين اعتبروا أن المؤتمر نجح لأن الأجواء بينهم كانت مريحة وتخللها مزاح في الجلسات (*).

هذا النمط أو النهج، ما يزال سائداً حتى الآن وإن تغلّف في محطات كثيرة بشعارات إعادة الإعمار والوجود وبناء الدولة وغيرها. فعند كل استحقاق أو أزمة، تختلف الطبقة السياسية بجميع مكوّناتها ومجموعاتها وأحزابها على كلّ شيء، ولا يتفقون إلا عندما يحصل الجميع على حصص باسم الوطن طبعاً أو على جوائز ترضية على شكل تلزيمات في مشاريع إنمائية بأسماء وهمية وغير وهمية.

فرصة لبنانية قد لا تتكرر

أمام لبنان اليوم فرصة تاريخية جديدة، وربما قد تكون فعليّاً الأخيرة لعقود، وهي فرصة إعادة بناء الدولة فعليّاً وليس عبر الشعارات، والعمل على تفعيل حضور أصوات شابة جديدة في الحياة العامة لا تمتّ إلى الأحزاب الموجودة بصلة أو متحرّرة من التبعية منها ومن خطابها.

يليق بنا أن نحلم بوطن يشبهنا، ولأن التاريخ يُكرّر نفسه ولأنه انطلاقاً من الواقعية السياسية والمسؤولية التي تمنعنا من المبالغة في الحلم، فإنه علينا العودة جميعاً إلى بعض المحطات المشرقة في تاريخنا والانطلاق منها للقول إنّ بناء المؤسسات في وطن الطوائف والطائفية ممكن، وأعني هنا تجربة الرئيس الراحل فؤاد شهاب برغم ما رافقها من أخطاء وتشوّهات. فقد عرف شهاب كيف “يضبط” بالقانون والدستور شراهة الأحزاب والعائلات التقليدية للنفوذ في السلطة عبر تفعيل أجهزة الدولة ولا سيما الرقابية التي ما زلنا ننعم بأسمائها حتى يومنا هذا.

في ٩ كانون الثاني/يناير، من “المُقرر” أن ينتخب لبنان رئيساً جديداً للجمهورية بعد فراغ استمر سنتين وأكثر من شهرين، وذلك في أسوأ مرحلة عرفها في تاريخه. وعلى الرغم من أهمية الانتخاب، يبقى أنه أمامنا مسؤولية جميعا، لا سيّما نحن الجيل الجديد، في المطالبة بالمحاسبة وفي تشكيل نواة ضغط على الأحزاب التقليدية الموجودة والتي لا يمكن أن نلغيها، وذلك يكون من خلال المشاركة في الحياة العامة والعمل على بناء نظام لا تحكمه الطوائف، بل القانون والانتماء للدولة والأهم من خلال تجاوز بدعة “حماية الطائفة” التي يبرع السياسيون في استخدامها لتثبيت نفوذهم وللإفلات من المحاسبة القانونية.

لبنان منهوب، وينقصه القرار والإرادة وليس الموارد المتوافرة أساساً متى عرفنا استثمارها لخدمة الصالح العام.

أمامنا فرصة قد لا تتكرّر، وصوتنا وحضورنا نحن الشباب يجب أن يصل إلى الداخل والخارج، حتى لا نخسر بلدنا مرة جديدة، وحتى لا يُكتب عنّا في الصحف الأجنبية بعد سنوات: “لقد ماتوا من أجل هؤلاء”.

(*)Hayat ElHariri, The Sunni Leadership in Lebanon. Case Study: The Emergence of Rafic Hariri 1979-1990 

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

كاتبة وباحثة سياسية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ثورة يناير.. قصة جيل جديد بالكاد بدأت