ترزح غزة تحت حصار محكم منذ أكثر من 18 عاماً. وتداعيات حرب الإبادة الصهيونية، قد زادت من حجم الأعباء الإنسانية، الناتجة عن تدمير مقومات الحياة في القطاع. في هذا المقال سنحاول أن نستعرض أبرز التحديات المُلقاة على عاتق الفلسطينيين بمختلف أطيافهم السياسية والاجتماعية، هذا إذا تجاوزنا فكرة أن “الصفقة” لا تزال تشوبها تفاهمات لإتمام انجاز المرحلتين التاليتين (الثانية والثالثة). وهذا تحدي لا يقلّ أهميةً عن إتمام المرحلة الأولى.
أولاً: لجنة الإسناد المجتمعي لإدارة شؤون غزة
بعد فشل طرفي الانقسام، حركتا “فتح” و”حماس”، في التوصل إلى صيغة لتشكيل حكومة وطنية جامعة تحكم أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، ونظراً لحجم التحديات التي فرضتها حرب الإبادة الجماعية، قرر الأفرقاء الفلسطينيون، وبمبادرة من الوسيط المصري، تأجيل البحث في الموضوع، والتركيز على تشكيل سُميت بـ “لجنة الإسناد المجتمعي”، تكون مسؤوليتها إدارة شؤون القطاع في مرحلة ما بعد الحرب. على أن تتألف من 10 إلى 15 من الشخصيات الوطنية ذات الكفاءات والمشهود لها بالنزاهة والخبرة والشفافية.
هذا ومن المفترض أن تتولى اللجنة مسؤولية المجالات الصحية، والاقتصادية، والتعليمية، والزراعية، والمرافق الخدمية والحيوية، بما يشمل أعمال الإغاثة ومعالجة آثار الحرب والإعمار، وذلك وفق الورقة المعتمدة التي قدمها الوسطاء المصريون بعد إدراج ملاحظات حركتي “فتح” و”حماس” عليها.
وكانت “حماس” قد أصدرت بياناً، في 15 كانون الأول/ديسمبر الماضي، تُعرب فيه عن موافقتها على الصيغة النهائية لتأليف اللجنة، بناءً على مشاورات أجرتها مع “فتح”. لكن أكثر من قيادي “فتحاوي” ألمح إلى أن “فتح” تفضّل أن تكون اللجنة تحت إدارة الحكومة الفلسطينية لتكون الأخيرة مرجعيتها الإدارية والسياسية.
وعلى خطٍ موازٍ، أعرب الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، عن استعداد السلطة الفلسطينية لتولي مسؤولياتها كاملةً في غزة. وأورد بيان للرئاسة أن “دولة فلسطين هي صاحبة الولاية القانونية والسياسية على القطاع، كباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس (…) وأن الحكومة الفلسطينية قد أتمّت الاستعدادات كافة لتولي مسؤولياتها الكاملة في القطاع، وأن طواقمها الإدارية والأمنية لديها كامل الاستعداد للقيام بواجباتها للتخفيف من معاناة شعبنا وعودة النازحين (…) وإعادة الخدمات الأساسية …”.
تكلفة إعادة اعمار غزة تتراوح بين 40 و 80 مليار دولار أميركي.. وشروط المجتمع الدولي تجعل من العملية حربٌ من نوع آخر
وإذا كان المأمول أن تتشكّل هذه اللجنة قبل أن تضع الحرب أوزارها، فإنّ عدم الاتفاق على صيغتها النهائية لغاية الآن، سيزيد من حجم المعاناة الإنسانية التي يعانيها سكان القطاع، والتي لن تستطيع “حماس” إدارة شؤونه بمفردها.
ثانياً: إعادة الإعمار .. حرب من نوع آخر
تنص صفقة تبادل الأسرى والرهائن، على أنه وخلال المرحلة الثانية، توضع الخطط اللازمة من أجل البدء بعملية إعادة إعمار في جميع مناطق القطاع، تشمل المباني السكنية والبنى التحتية والخدمات. أما في المرحلة الثالثة، فيبدأ تنفيذ ما وضع من خطة لإعادة إعمار القطاع مدتها 3 إلى 5 سنوات، وتشمل المنازل والمباني المدنية والبنى التحتية الأخرى.
في الحقيقة، لا ينصّ الاتفاق على صيغة واضحة، حول مسألة جوهرية ستحتلّ أولوية لدى الغزيين في المرحلة المقبلة. فأحد بنود الاتفاق ينص على أن عملية إعادة الاعمار ستكون تحت إشراف عدد من الدول والمنظمات، بما في ذلك مصر وقطر والأمم المتحدة. وفي هذا المجال، تُطرح التساؤلات التالية:
تشير التقديرات الأممية إلى أنّ التكلفة الأولية لإعادة الاعمار تقدّر بـ 40 مليار دولار أميركي، فيما تذهب تقارير دولية أخرى إلى تقديرها بحوالي 80 مليار دولار أميركي. في جميع الأحوال، التكلفة باهظة وتحتاج إلى حشد دعم دولي كبير، وربما غير مسبوق.
الولايات المتحدة، وبالتناغم مع حليفتها إسرائيل، قد لا تراغب في البدء بجمع أي تمويل أميركي أو دولي طالما “حماس” باقية في الحكم. والحركة أصلاً مدرجة على قوائم الإرهاب الأميركية والدولية.
بعض الدول العربية الغنية هي أيضاً تبدو غير مستعدة للمساهمة في الأمر، لأنها تُناصب العداء الإيديولوجي لـ”حماس”، وتفضل أن تكون مساهماتها؛ إن حصلت؛ تحت اشراف السلطة الفلسطينية.
المجتمع الدولي هو الآخر بحاجة إلى حكومة وطنية جامعة تتكون من كفاءات وطنية كشرط لمنحها الثقة، وهذا غير متوفر حتى اللحظة.
مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، سيعود النازحون من جنوب القطاع إلى منازلهم في الشمال. وعلى الأغلب ستكون بيوتهم مدمرّة. ومع تدمير آلة الحرب لكل مقومات الحياة في القطاع، سيصبح مبيت الفلسطينيين مهدداً في ظلّ افتقار القطاع لأبسط مقومات العيش. وفي هذا المجال، تتخوف أوساط فلسطينية من مخطط ترحيل الغزّيين إلى خارج أرضهم تحت حجة توفير مقومات العيش الكريم في أماكن أخرى. في هذا السياق، أفادت شبكة “إن. بي. سي.” الأميركية أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تدرس خطة لنقل جزء من سكان غزة إلى خارج القطاع خلال عملية إعادة الإعمار، وتقترح أن تكون إندونيسيا من بين الدول المرشحة لإستضافتهم بشكل مؤقت.
ثالثاً: انجاز المصالحة الوطنية وتشكيل حكومة وطنية جامعة وإصلاح منظمة التحرير
طوال الأعوام الثمانية عشر الماضية، أخفقت كل المحاولات السابقة لإنجاز المصالحة التاريخية بين قطبي الانقسام الفلسطيني. وفي خضمّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة، جرت عدّة مشاورات بين الفصائل الفلسطينية، للاتفاق على النقاط الخلافية، والتي تتمحور حول أشكال المقاومة، وصيغة الحكم المناسبة، والانضواء تحت مظلة منظمة التحرير و”اتفاق أوسلو”. هذه الاجتماعات عقدت في العاصمة الروسية موسكو (شباط/فبراير 2024)، تلاها محادثات في العاصمة الصينية بيكين (تموز/يوليو 2024). ومع أن الاجتماعين قد تمخضّا عن النتائج نفسها لناحية الدعوة إلى إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني وتشكيل حكومة مصالحة وطنية، الا أنّ الاتفاقات لا تزال حبراً على ورق.
اليوم؛ وفي ضوء التحديات المصيرية التي فرضتها حرب الإبادة الجماعية التي مورست على قطاع غزة طوال 15 شهراً؛ فإننا نتمنى على الفصائل الفلسطينية أن تلتقي مع بعضها البعض، وأن تعقد حواراً وطنياً جامعاً لمناقشة كل متطلبات المرحلة وتحدياتها، ويتوحّدون خلف برنامج سياسي-نضالي جامع، يتمخض عنه حكومة وطنية جامعة لمختلف الأطياف السياسية والفصائلية. إنّ تشكيل أي حكومة جديدة يجب أن يترافق مع مراجعة شاملة للتجارب السابقة، والقاء الضوء على مكامن الخلل والضعف، والكفّ عن المكابرة والعناد اللذين مارستهما كلٌ من حكومتي رام الله وغزة، في أوقات سابقة من زمن الانقسام الفلسطيني.
إدارة ترامب تدرس خطة لنقل جزء من سكان غزة إلى خارج القطاع خلال عملية إعادة الإعمار.. وإندونيسيا من بين الدول المرشحة لإستضافتهم بشكل مؤقت
غنيّ عن القول إن تكلّساً سياسياً وتنظيمياً قد أصاب منظمة التحرير الفلسطينية منذ عقود خلت، إذ صادرت السلطة الفلسطينية أدوار ووظائف المنظمة، بما هي تهميش دور الإطار المرجعي للفلسطينيين، بكافة منظماتهم السياسية والاجتماعية والنقابية، والشبابية، والطلابية، والنسائية.
لذلك، من المهم جداً أن يُفتح باب النقاش على مصراعيه بين أوساط النُخب السياسية والثقافية الفلسطينية، ويركز على الموضوعات التالية:
هل ما زالت منظمة التحرير قادرة على القيام بدورها الوطني المعهود، أم ينبغي التأسيس لمرجعية سياسية وطنية أخرى؟
ثمة حاجة لتفعيل بعض البنود التي بقيت دون تنفيذ في ميثاق المنظمة. فكيف، وبأية آليات يمكن أن تستقيم عملية الإصلاح داخل المؤسسة ويجري تفعيل أطرها التنفيذية؟
هل يتمّ صياغة ميثاق جديد لمنظمة التحرير، بما فيه برنامج سياسي، ربطاً بالمتغيرات التي حصلت في العقود الثلاث الأخيرة، والتي كان لها تأثير بالغ على مصير القضية الفلسطينية؟
ما حجم الموارد والطاقات المتوافرة راهناً لدى جميع مؤسسات المنظمة؟ وكيف يمكن تفعيلها؟ وكيف يمكن استقطاب طاقات جديدة تفيدنا في عملنا النضالي؟
كيف ستؤطر المنظمة أو أية هياكل سياسية أخرى، من عوامل القوة والدعم والتأييد الذي لاقته القضية الفلسطينية، بعد معركة طوفان الأقصى؟ إذ أن القضية عادت لتحتلّ موقع الصدارة في الاهتمامات السياسية الدولية.
هذا مع العلم أن فلسطينيين، من مشارب وخلفيات مختلفة، باشروا طوال العام الماضي، بالتحضير لفعاليات المؤتمر الوطني الفلسطيني، والذي يهدف للتصدي للتحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني، بعد حرب الإبادة الجماعية على غزة، من خلال إعادة بناء منظمة التحرير وفق أُسس ديموقراطية جامعة، والضغط من أجل تشكيل قيادة فلسطينية موحدّة. ومن المقرر أن يعقد المؤتمر أولى جلساته، في 17 شباط/فبراير المقبل.
لقد حاولنا في هذا المقال، إلقاء الضوء، على أبرز التحديات التي ستواجه الشعب الفلسطيني، في المرحلة المقبلة. وإذا لم يستطع الفلسطينيون، بكافة قواهم السياسية والاجتماعية، أن يتوحدوا ليبدّدوا هواجس الأسئلة الصعبة والإشكالية، فإنّ تضحيات شعبنا العظيمة والغالية، ستكون قد ذهبت سُدىً. وهذا ما لا يمكن أن يقبله أيٌ من الوطنيين الفلسطينيين.
ختاماً، حاولنا في هذه المقالة أن نستعرض أبرز التحديات التي تنتظر القطاع على المديين القصير (الإغاثة وإعادة الاعمار) والبعيد (انهاء الانقسام الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير). وسنحاول في مقال لاحق تقييم أهم التأثيرات التي خلفتها حرب الإبادة ونتائجها على المجتمع والدولة في إسرائيل.