صورة الجرذ السلبيّة هي نتاج معتقدات قديمة كوّنها أهل الشرق الأوسط وأوروبّا، حتّى أصبح تشبيه إنسان ما بأنه “جرذ” إهانة لا تعلو عليها إهانة. أمّا في حضارات جنوب أسيا وشرقها، فالجرذ من الحيوانات التي تحظى ببعض “التكريم”. مثلاً، هو أوّل الحيوانات في علم التقويم الصيني (يدور هذا التقويم على 12 سنة، وكلُّ سنةٍ منها مرتبطة بحيوان). المولودون في سنة الجرذ يُعتقد أنّهم يمتلكون روح الإبداع، والذكاء، والصدق، والكرم، والطموح، وسرعة الغضب. أمّا في جنوب آسيا، فنجد تماثيل لهم في بعض المعابد. ولا يتعرّض أحد للجرذان بل يُطعمونهم الحليب والحبوب، ويُعتقد أنّهم يُستنسخون في الحياة المقبلة كزهّاد وعبّاد (في اللغة الهندية: Sadhus للرجال أو Sadhvi للنساء؛ والتي تعني بالإنكليزيّة: holy men أو holy women).
إكتشف الباحثون في مجالات السيكولوجيا والذكاء الإصطناعي والطب وغيرها أنّ للجرذان “فضائل” كثيرة، وهؤلاء يُفضّلون استخدامها في مختبراتهم بدل حيوانات أخرى أو بعض البشر. زدْ على ذلك بروز ملامح موضة جديدة تتمثل باقتناء الجرذان كحيوانات أليفة في المنازل.
في هذا الخصوص، قرأت حديثاً مقالة كتبتها الأستاذة كيلي لامبرت (Kelly Lambert) من جامعة ريتشموند (University of Richmond) في الولايات المتّحدة (1)، وهي متخصّصة بمجال علم الأعصاب السلوكي (Behavioral Neuroscience). تشرح لامبرت أنّها أجرت مع فريق من زملائها ومساعدين لهم بحثاً تضمن تمرين جراذين على استعمال عربة صغيرة وقيادتها إلى حيث وُضعَ لهم الطعام. وكانت المفاجأة أن الجرذان تعلموا بسرعة استعمال الشريط الذي من خلاله يسيطرون على سرعة العربة وتوجيهها بمهارة تشبه تلك التي لمعظم بني البشر.
وتبيّن لهم أيضاً أنّ الجرذان الذين يمضون وقتهم بين الألعاب ومع بعضهم البعض، بعكس أولئك الذين يمضون وقتهم وحيدين في قفص، يتطوّر سلوكهم إيجابيّاً بسرعة فائقة. الخلاصة هنا أنّ عامليّ اللعب والإختلاط مهمّان في تنمية الذكاء والفضول، والخلاصة من ذلك أنّ التحوّلات التي تحصل في الدماغ مرتبطة مباشرةً بنوع البيئة التي نعيش فيها ومتطلّباتها. وهذا تحديداً ما حصل مع البشر في العصور الغابرة وصولاً إلى ما هم عليه اليوم (عذراً من أولئك الذين لا يؤمنون بنظريّة التطوّر الداروينية).
أوصلنا تطوّرنا إلى أنّ إصبحت عقليّة الجرذان (الصورة النمطية السلبيّة طبعاً) هي المُسيطرة على السياسيّين والعلماء وأصحاب الثروات والمتنفّعين.. وما نراه اليوم بكل وضوح في البيت الأبيض والكونغرس ليس إلاّ خير دليل على أنّ الأمور بدأت تنقلب!
واكتشف الباحثون أيضاً أنّ الجرذان الذين اعتادوا قيادة العربة نما عندهم حسّ الإثارة والترقّب والمتعة. ليس فقط من جهة أنّ قيادة العربة توصلهم إلى أشياء إيجابيّة (الطعام)، بل أيضاً من جهة أنّ قيادة العربة ممتعة بذاتها. هذا العامل لاحظه الباحثون في الماضي عند الحيوانات التي تحبّ اللعب، مثل الدلافين والقردة. لكن لم يتبلور فهمٌ كاملٌ حول مدى تأثير اللعب على تطوّر ذكاء هذه الحيوانات والوظائف العصبيّة لأدمغتها.
تأثير عامل الترقّب على السلوك هو أمرٌ مدهشٌ من دون أدنى شكّ. المدهش أيضاً أنّ الجرذان أصبحت واعية أنّ الإنتظار والصبر يُفضي إلى نتائج إيجابيّة، وأنّ ليس كلّ شيء متعلّق بالمتعة المباشرة. ولتأكيد خُلاصتهم، قام الباحثون بوضع نفس الطعام قرب العربة، ومع ذلك تجاهلته الجرذان وتعمشقت على العربة وقادتها للوصول إلى الطعام ذاته في مكان أبعد. وهذا دليل على أنّ قيادة العربة تُشكّل بالنسبة إليهم متعة لا يريدون فقدانها وأنّهم مستعدّون للبقاء من دون طعام لفترة أطول كونهم سيصلون إليه عاجلاً أم آجلاً. وهذا دليل آخر على تطوّر عامل “الأمل” في عقول الجرذان.
وبقي سؤال سيركّز الباحثون على دراسته مستقبلاً. عند البشر تحديداً، تلعب المتعة أو غيابها دوراً هائلاً في الصحّة العقليّة والجسديّة. فهل الأمر نفسه ينطبق على الجرذان (وبعض الحيوانات الأخرى)؟
***
شعرتُ ببعض المرارة وأنا أقرأ هذا المقال الرائع. ليس ذلك حسداً من الجرذان؛ “صحتين على قلبهم”، كما نقول بالعامية في لبنان. بل أسفاً على ما آلت إليه حقيقة الإنسان في القرن الواحد والعشرين.
وصل تطوّر البشريّة إلى درجة أصبحت فيها “الإنجازات” التي توصلنا إليها عبارة عن ويلات. ينطبق علينا المثل الشعبي: “كل شي زاد عن حدو بينقص”، أي من زاد عن حدّه فقد بريقه وقيمته وأصبح ضرره أكثر من فائدته. نعم، أوصلتنا عقولنا المتطوّرة (وحبّ المال والشهرة والعنجهية وغياب الأخلاق و..) إلى المكان الذي بدأت معه ملامح تقهقر الجنس البشري تظهر بوضوح: خلقنا الآلة التي ستُسيطر على كلّ شيء في حياتنا وستبدأ رحلة عودة الإنسان إلى عالم الحيوانات.
ما نسميّه بـ”الذكاء” الإصطناعي بدأ يأخذ مكان البشر في مجالات عديدة، والحبل على الجرّار. لم يعد هناك مجال محصور بالإنسان وحده. أهمّ مجالات العمل اليدوي تمّ استبدال البشر فيها بالروبوتات (وهذا بدأ يحصل منذ عقود)، ووصل الأمر إلى حدّ أنّ الكومبيوتر يُمكنه تصميم السيّارة، وصناعتها، وقيادتها. وحتّى الفكر، أصبح لدينا الـ”تشات-جي.بي.تي.” (ChatGPT) ليُفكر عنّا ويكتب الرواية والبحث العلمي ويُمثّل الأفلام وينظم الشعر إلخ..
ما الذي بقي للبشر وما هو دورهم في عالم الروبوتات والـ (ChatGPT) وغيرها من بدائع عصر ما بعد البشريّة؟ وهل ستكون هذه فرصة لحيوانات غيرنا أن تتطوّر وتأخذ مكانتنا، بينما يتقوقع البشر في عالمهم الإفتراضي، يعانون من الوحدة والأمراض النفسيّة، يُدمنون الحبوب المهدّئة وتلك التي تعالج الإكتئاب، ويفقدون مع الوقت مكانتهم التي وصلوا إليها وتمايزهم عن بقيّة المخلوقات؟
من دون شكّ، بات مستقبل البشر قاتماً نتيجة لهذا الإندفاع الأعمى لمن همّه تكديس الثروات التي يُحصّلها عبر الذكاء الإصطناعي، أو أولئك الذين يريدون من خلاله السيطرة على الناس وسوقهم كالماشية..
كلّنا يعرف جيّداً أنّ العلم والتطوّر والإنجازات التكنولوجيّة قادتنا إلى تسميم الأرض التي نعيش عليها، وبكل هذا التغيير المناخي والكوارث البيئيّة التي تُولّد الويلات والمعاناة للبشرية جمعاء. والآتي أعظم.
***
أوصلنا تطوّرنا إلى أنّ إصبحت عقليّة الجرذان (الصورة النمطية السلبيّة طبعاً) هي المُسيطرة على السياسيّين والعلماء وأصحاب الثروات والمتنفّعين.. وما نراه اليوم بكل وضوح في البيت الأبيض والكونغرس ليس إلاّ خير دليل على أنّ الأمور بدأت تنقلب!
يخطر على بالي وأنا أكتب هذه السطور فيلم “كوكب القردة” (Planet of the Apes) الذي ظهر في سنة 1968، وحصل على شعبيّة كبيرة (الفيلم مأخوذ من رواية كتبها الروائي الفرنسي بيار بول (Pierre Boulle) في سنة 1963)، وقد تعامل الكثيرون مع الفيلم وكأنّه نكتة طريفة، لكنّ يبدو أنّ فكرته تقترب أكثر فأكثر من أن تكون واقعاً. على الأقلّ، الجرذان يهمّها سلامة كوكبنا، ويُمكنها أن تتّقن فنّ الطبخ كما يقول لنا فيلم “راتاتويل” (Ratatouille).
ختاماً؛ لنكن لطيفين مع الجرذان (لا أعني البشر منهم). من يدري، يُمكن في مستقبل غير بعيد أن نكتشف أنهم باتوا يُسيطرون على العالم.. لننتظر ونرَ.
(1) المقال موجود على موقع الـ BBC.