

هذا بالضبط ما فعله دونالد ترامب، وكنا في النهاية، ضمن حلفاء لأمريكا، بين ضحايا هذا الإعصار. للأسف رأيناه وسمعناه ومعنا العالم بأسره يستخدم لتحقيق غرضه أسوأ ما في قاموس الازدراء والاستخفاف والاستفزاز من كلمات وعبارات، أما الغرض فكان وما يزال إحداث فوضى شاملة يهدم بها قناعات وسياسات دول أخرى، كبيرة وصغيرة، ليحصل لنفسه على حيز أوسع في ساحات الإعلام وليتخلص من منافسيه وخصومه وتبرئة نفسه من إدانات القضاء على كافة مستوياته ومكافأة كل الأغنياء الذين موّلوا حملته الانتخابية وأغلبهم من المقاولين وغلاة الصهاينة، كل هذا وأكثر تحت لافتة العمل لـ”عودة أمريكا عظيمة من جديد”.
***
ليس صعباً التنبؤ بأن السنوات القادمة في حكم الرئيس ترامب سوف تكون أصعب من سنوات ولايته السابقة والتي انتهت بخسارته انتخابات الولاية الثانية التي كان يحلم بها. نعرف كيف أنه لم يتحمل الهزيمة بشجاعة وحكمة حتى أنه لجأ لتدبير ما يشبه الانقلاب مورطاً عشرات الأفراد المعروفين بتطرفهم اليميني راحوا يحتلون مبنى الكابيتول، رمز النظام الديموقراطي الذي يمقته اليمين الأمريكي المتطرف. لم يفاجئني الاستقبال السيئ في مؤتمر ميونيخ للأمن لنائب الرئيس الأمريكي. لم ينسَ الحضور، الذين يمثلون في حقيقتهم قاعدة الحكم والنفوذ في القارة الأوروبية، لم ينسوا أن التيار اليميني الجارف الذي يكاد يطيح اليوم بعدد من حكومات أوروبا، هو من صنع أو دعم مساعدين للرئيس ترامب وأعوانه والمتعاطفين معه. أحزاب أوروبا المعتدلة واليسارية لن تغفر له ما فعل وحكومات أوروبا الراهنة لن تدعه ينعم باتفاق سلس مع روسيا على حساب أمن وسلام أوروبا. مرة أخرى تهتز ثقة الحلفاء بالقطب الأعظم ومرة أخرى تعود أوروبا مصدر الخطر الحقيقي على السلام العالمي.
***
أمريكا فقدت في السنوات الأخيرة بعضاً غير قليل من احترام الآخرين وكثير من الأمريكيين لمؤسسات الحكم لكثرة ما شاب عملها من أخطاء جسيمة
ليس هنا المجال الأمثل للحديث عن أفراد المجموعة التي اختارها الرئيس ترامب لمساعدته في الحكم. أتوقع، ويتوقع محللون أمريكيون وأوروبيون، أن يكتشف الرأي العام الأمريكي نقائص في هذا الاختيار، بعضها أُثير في لجان مجلس الشيوخ التي راجعت هذه الاختيارات ولم تتوقف عندها برغم فداحتها. يستطيع الرئيس إجراء تغييرات في بعض مواقف السياسة الخارجية وعد أو هدّد بها وهو ما حدث بالفعل، ولكنه سوف يجد صعوبة في التخلص من أحد مساعديه إذا وجد التخلص منه ضرورياً وهو يكاد يماثل ما حدث مع ستيف بانون. بمعنى آخر، أعتقد أن ترامب الثاني أضعف كثيراً من ترامب الأول من حيث أنه يأتي وقد صارت “النخبة السياسية الحاكمة” محل نقد شديد. في الغالب لن يجد ترامب الثاني طريق الحكم ممهداً أو مزداناً بالزهور ففي الشارع الأمريكي أيضاً غضب غير بسيط.
***
أضف إلى موقف الرأي العام المسيس وكذلك إلى موقف الرأي المتخصص داخل أجهزة الأمن كالجيش ومواقع العصف الفكري مثلاً، بعض أخطاء انزلق إليها الرئيس الجديد ومجموعته في الحكم منها على سبيل المثال قرار الرئيس تشكيل “بطانة إيمان” من سيدات ورجال يحتلون مواقع تبشيرية في عديد المراكز الدينية ويحيطون الآن برئيس القصر ومساعديه. أضف أيضاً نشأة مجموعات ضغوط قوية ناصبة مصالحها على حساب مصالح الدولة العظمى الحالة والعاجلة. كل هذا وغيره كثير يشير إلى أن العالم ربما كان في جوهره بخير ومن الممكن لو أحسنت الصين وروسيا والهند عملها أن يتطور صعوداً نحو نظام متعدد الأقطاب، ولكن في ظاهره يعاني من آثار فشل محاولة بعد أخرى لتجديد الدماء في شرايين هيمنة أمريكية تتهاوى، فضلاً عن أن أمريكا فقدت في السنوات الأخيرة بعضاً غير قليل من احترام الآخرين وكثير من الأمريكيين لمؤسسات الحكم لكثرة ما شاب عملها من أخطاء جسيمة. أضرب فيما يلي مثلاً بتاريخ الهيبة المتناقصة للمكتب البيضاوي، حيث يُصنع القرار الأهم.. ويُصاغ.
***
أولاً؛ تداول منصب الرئاسة في العهود الأخيرة عدد من الأشخاص لم يُقدّروا حق التقدير مكانة المنصب وحدود القوة في الأداء. جورج بوش الإبن أساء بخضوعه لنفوذ جماعة ضغط صهيونية أطلقت على نفسها صفة “المحافظين الجدد” وجعلت الرئيس يندفع نحو حرب غير ضرورية لأمريكا في ذلك الحين. لكنها الحرب التي أساءت إلى هيبة الرئاسة إساءة لم تغتفر إلى يومنا هذا، وأساءت إلى سمعة أمريكا في مختلف مواقع العمل الدولي. يشهد تاريخ المكتب البيضاوي على مشاورات قادتها هذه المجموعة وانتهت فيها إلى إقناع الرئيس اتخاذ قرار هذه الحرب غير الضرورية لمصالح أمريكا وإنما ضرورية لتحقيق أهداف مجموعة الضغط الصهيوني في وزارة الدفاع وفي البيت الأبيض.
ثانياً؛ يسجل التاريخ أن رئيساً لأمريكا، القطب الدولي المشارك وقتها مع الاتحاد السوفييتي في قيادة النظام الدولي، ارتكب في المكتب البيضاوي جريمة تجسس على خصوم سياسيين. كانت فضيحة هزت ثقة الحلفاء في صدقية وأخلاق شاغل هذا المكتب. انتهى الأمر، كما لا شك نذكر، بعزل رئيس الدولة الأعظم من منصبه وتولي نائبه المسئولية بعده. يشهد التاريخ أن هذه الفضيحة أسهمت بدرجة كبيرة في الإساءة إلى هيبة موقع عمل رئاسة الدولة العظمى وهي الإساءة المستمرة إلى يومنا هذا.
ثالثاً؛ تابع الكثيرون في أمريكا وفي خارجها بشغف مشهود وفضول كبير تطور فضيحة العلاقة العاطفية التي قامت بين رئيس لأمريكا، القطب الأعظم، والمتدربة في سن المراهقة. المأساة تأبي إلا أن تتكرر إذ كان المكتب البيضاوى الذي تؤخذ فيه أهم القرارات التي تمس أمن وسلامة دول العالم الساحة التي نمت فيها هذه العلاقة وتكشفت في التحقيقات أبعادها وآثارها الضارة على هيبة منصب الرئاسة وليس فقط المكتب البيضاوي. قطاع هائل من شباب العالم في شماله وجنوبه تابع فصول هذه الفضيحة ولا بد أنها خلفت في ذاكرته وعلى تكوينه السياسي انطباعاً لم يمحَ عن هذا المكتب الذي تصدر عنه قرارات تخص السلم والأمن الدوليين.
أعتقد أن ترامب الثاني أضعف كثيراً من ترامب الأول من حيث أنه يأتي وقد صارت “النخبة السياسية الحاكمة” محل نقد شديد. في الغالب لن يجد ترامب الثاني طريق الحكم ممهداً أو مزداناً بالزهور ففي الشارع الأمريكي أيضاً غضب غير بسيط
رابعاً؛ شهد المكتب البيضاوي بين ما شهد، مرحلة هامة من مراحل تردي الصحة العامة للرئيس جو بايدن. لم يغب عن وعي ملايين الأمريكيين منظر رئيسهم في المكتب البيضاوي وهو يتلعثم في النطق بالتوجيهات الرئاسية والأحاديث الصحفية، أو وهو يتوه ضائعاً بين الأبواب ليخرج من باب منها. حدث هذا في وقت كانت الدعوة لتجديد عظمة أمريكا التي راح يبشر بها الرئيس المنتخب دونالد ترامب ملء السمع والبصر موحية بأن وراء هذه الدعوة حقيقة أن أمريكا العظمى تنحدر في نظر حكامها كما في نظر الرأي العام السياسي في أمريكا ذاتها وفي عديد الدول. لم يهتم كثيرون بالبحث عن السبب وراء الانحدار فإن كان انحداراً نسبي الدرجة بمعنى أنه الوجه الآخر لصعود مفاجئ ومذهل لدولة أخرى تسعى إلى القطبية، تركت توالي صعودها ولم تتدخل أمريكا لوقف هذا الصعود. يدرك الكافة أن استمرار صعود الصين يعني في نهاية المطاف انهيار النظام الدولي الذي صاغت فصوله وتفاصيله الولايات المتحدة الأمريكية قبل قرابة قرن.
خامساً؛ كما لو كان الأمر متعمداً راح الرئيس ترامب يستغل المكتب البيضاوي لتمجيد مكانته وهذا حق له لا ينازعه فيه أحد. أما أن يتحول المكتب إلى قاعة للتسلية ترفع فيه الكلفة لكل زائر أن يفعل ما شاء له كأن يرتدي من الملابس ما يخالف تقاليد هذا الموقع وأن يأتي بابنه ليلهو ويتحدث مع رئيس يفترض انشغاله بحرب بين روسيا وأوكرانيا وحرب بين المقاومة الفلسطينية وجيوش دولة إسرائيل. حدث هذا أمام ملايين المشاهدين الذين حرص الرئيس الأمريكي على وجودهم معه من على شاشاتهم التلفزيونية كل ساعات النهار إن استطاعوا. رحنا بعد يوم على متابعتنا هذا المشهد نسمع ونقرأ ما يؤكد أن هيبة هذا المكتب عادت فتأذت بشدة ولتجر وراءها مكانة أمريكا في العالم.
***
يعتقد الرئيس الأمريكي أن الأساليب الغريبة التي انتهجها والأهداف الأشد غرابة التي اختطها لحكومته كفيلة بوقف انحدار أمريكا إن لم تؤد إلى استعادة عظمتها. لا يوجد شيء ملموس ولا دليل معتبراً كافياً لإقناعنا بوجاهة هذا الاعتقاد في ظل هيبة متناقصة ومكانة متراجعة.