الطعام في صلب الخطاب.. الديني!

علاقة الطعام بالدين هي علاقة قديمة، يمكن أن نصفها بالتأسيسيّة. الطعام ليس فقط وجبة نأكلها، بل له امتدادات عميقة في الخطاب الديني (خصوصاً التوحيدي) وأصبح مجبولاً في معتقداتنا وأفكارنا ومفاهيمنا عن جوهر الدين والحياة.

لم ينتبه المؤرّخون إلى أنّ أوّل ذنب اقترفه الإنسان (بالطبع أنا أتحدّث عن الخرافة التوحيديّة المبنيّة على الرواية التي نقرأها في سفر التكّوين) متعلّق بالطعام. تقول الآيات 15-17 من الإصحاح الثاني ما يلي:

“وأخَذَ الربُّ الإِلهُ آدَم ووَضَعَهُ في جَنَّة عَدْن لِيَعْمَلَها وَيَحْفَظَها. وأوْصى الربُّ الإلهُ آدَم قائِلاً: “من جَمِيع شَجَر الجَنَّةِ تأْكُلُ أكْلاً، وأمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الخَيْرِ والشرِّ فَلا تأْكُلْ مِنْها، لأَنَّك يَوْمَ تأْكُلُ مِنْها مَوْتاً تَمُوت”.

لكن آدم وحوّاء اشتهيا ثمار شجرة (المتعارف عليها أنّها شجرة التفّاح) وأكلا منها، “فانْفَتَحَتْ أعْيُنُهُمَا”، فغضب الإله منهما وطردهما من الجنّة.

لماذا هذه العلاقة بين نوع معيّن من الطعام والمعرفة؟ هل ذلك مبني على حدس بشري بأنّ الطعام يخلق في الإنسان قدرات عقليّة ويساعد على تنميتها، ومن خلال هذه القدرات العقليّة يتمّ معرفة الخير والشرّ؟ ولماذا استخدام الطعام من أجل معالجة موضوع بهذه الأهميّة؟ هل ذلك متعلّق بأنّ الخطاب، لكي يفهمه الناس ويكون فعّالاً، يجب أن نستوحيه من تعابير ومصطلحات وأمثال وصور و.. مبنيّة على تجارب مررنا بها ونعرفها؟

أثناء معراجه إلى السماء، يقول النبيّ، أنّ الملاك جبرائيل أتاه “بقَدَحَيْن – قَدَح لَبَنٍ، وقَدَح خَمرٍ – فنَظَرتُ إليهما، فأخَذتُ اللَّبَنَ، فقال جِبريل: الحَمدُ للهِ الذي هداكَ للفِطْرةِ، لو أخَذتَ الخَمرَ غَوَتْ أُمَّتُك”. فكان إٌمتحان النبي بالطعام وليس بالنقاش الفلسفي حول طهارة النفس وأهميّتها

كذلك الأمر مع أوّل جريمة اقترفها البشر وهي أيضاً متعلّقة بالأكل. ففي يوم من الأيّام، قام كلّ من قايين وهابيل بتقديم قربان للربّ، كما يقول المقطع التالي من الإصحاح الرابع (الآيات 2-5):

“وكانَ هابِيلُ راعِياً لِلغَنَمِ، وكانَ قايِينُ عامِلاً في الأرضِ. وحَدَثَ من بعد أيّام أنّ قايِينَ قَدَّمَ مِنْ أثْمار الأرضِ قُرْبَاناً لِلربِّ، وقَدَّمَ هَابِيلُ أيضاً من أبكارِ غَنَمِه ومن سِمَانِها. فَنَظَرَ الربُّ إلى هَابِيلَ وَقُرْبانِهِ، ولكِنْ إلى قايِينَ وَقُرْبانِهِ لَمْ يَنْظُر”.
السؤال هنا لماذا ركّز الراوي على موضوع أنّ الله تقبّل الغنم ورفض ثمار الأرض (الفاكهة، الخضار إلخ..)؟ وهل لذلك علاقة بأنّ الراوي كان يعرف أنّ الله يُفضّل الغنم على الثمار؟ أم أنّ الأمر متعلّق بأنّ شعب إسرائيل كان أصله رعيان، وفي عرفهم التراثي أنّ لا شيء يعلو عن التضحية بالماشية (وهو أمر منتشر بين أتباع الديانات السماويّة عامّةً، وخصوصاً في العالمين العربي والإسلامي)، فعكسوا أهميّة وهرميّة طعامهم على إلههم، فجعلوه محبّاً للمشاوي، باغضاً للسَلَطَة!

***

هذا الأمر مثير للفضول من دون شكّ، وهو ليس محصوراً بالتوراة. إذا دققنا في الأناجيل، مثلاً، لوجدنا أنّ معظم المعجزات المنسوبة إلى المسيح تعلّقت بالطعام. مثلاً لا حصراً، هناك معجزة تحويل الماء إلى نبيذ (إنجيل يوحنّا 2: 1-11)، ومعجزة تحويل خمسة أرغفة وسمكتين إلى وليمة أطعمت 5000 شخص وبقي منها طعام كثير (إنجيل مرقس 6: 35-44). وحتّى عندما كان المسيح يعظ تلامذته، كان كثيراً ما يستخدم الطعام في كلامه. مثل “الملح جيّد، ولكن إذا صار الملح بلا ملوحة، فبماذا تُصْلِحونه؟” (مرقس 9: 50)، أو موعظة الرجل الذي زرع كرم عنب فسرقه من وكّلهم به (مرقس 12: 1-12). ونجد أيضاً التمييز بين تلامذة المسيح وتلامذة يوحنّا المعمدان وهو أنّ الأوائل عادتهم الإجتماع لتناول الطعام بينما الآخرون عادتهم الصوم (مرقس 2: 18-20). وحتّى يوحنّا، يصفه لنا إنجيل مرقس بأنّه كان “يأكُلُ جَراداً وعَسلاً بَرِّيّاً” (1: 6).

ما الذي يعنيه كل هذا التركيز على استخدام الطعام من أجل التعبير عن مفاهيم دينية معقّدة؟ فمعجزة إطعام عدد هائل من الناس برغيف وسمكة معناها التوكّل على الله. وموعظة زارع الكرمة هدفه الإشارة إلى موضوع الغدر والغشّ لدى كثير من الناس. وفقدان الملح لملوحته يشير إلى أنّه متى فسد جوهر الشيء (تحديداً الإنسان)، فلا يُعوّل عليه. أما توصيف يوحنّا بأنّه “كان يأكل الجراد والعسل البرّي”، فالمقصود منه أنّه لم يكن يأبه للطعام أو يشغل باله به عن أمور أهمّ، بل كان يعتمد على الطبيعة التي تؤمّنه له.. إلخ.

وحتّى إذا نظرنا في التراث الإسلامي، نجد الطعام في صلب الصورة (أو الأسطورة) الدينيّة. فأثناء معراجه إلى السماء، يقول النبيّ، وفقاً للحديث المعروف، أنّ الملاك جبرائيل أتاه “بقَدَحَيْن – قَدَح لَبَنٍ، وقَدَح خَمرٍ – فنَظَرتُ إليهما، فأخَذتُ اللَّبَنَ، فقال جِبريل: الحَمدُ للهِ الذي هداكَ للفِطْرةِ، لو أخَذتَ الخَمرَ غَوَتْ أُمَّتُك”. فكان إٌمتحان النبي بالطعام وليس بالنقاش الفلسفي حول طهارة النفس وأهميّتها.

ونعرف أيضاً أنّ الأرض المقدّسة تصفها لنا التوراة بـ”أرض اللبن والعسل”. والقرآن كذلك يقول لنا في سورة محمّد (الآية 15) أنّ الجنّة مليئة بأنهار الشراب:

“مَثَلُ الجَنَّةِ التِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أنْهَارٌ مِن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأنْهَارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَارِبِينَ وَأنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ..”.

فهل ما ينبغي أن نفهمه من كلّ هذا هو كيفيّة ملء البطون بالطعام الشهي، أمّ البعد المثالي والمعنوي للأشياء؟ هل اللبن والعسل هي لبن الماشية وعسل النحل، أمّ مصطلحات تشير إلى الخير والوفرة والبركة و..؟

***

هناك أيضاً علاقة للطعام بالإضّطهاد، كما حصل مثلاً مع المسيحيّين الأوائل في أوائل القرن الثاني للميلاد بتحريم أكل اللحمة المُضحّى بها في الهياكل الوثنيّة (وهو ما نجد مثيلاً له في القرآن). فحصل انهيار في تجارة هؤلاء وسبّب خسارة ماليّة للمتنفّعين من الهياكل (وللجزّارين)، فقامت القيامة على المسيحيّين

أعود إلى موضوع أشرت إليه آنفاً. عادةُ تقديم الطعام للآلهة تعكس واقع البشر والصورة التي يريدون إبرازها عن آلهتهم. مثلاً، في حضارات البحر المتوسّط، نجد عادة نحر الحيوانات (إجمالاً النعامات والدواجن) كقرابين وتقديمها على مذابح الهياكل، كما في القصص عن هيكل النبي سليمان في القدس، مثلاً؛ يُروى أنه عند الإنتهاء من بناء الهيكل (سفر أخبار الأيّام الثاني، الإصحاح السابع، الآيتان 4-5):

“قَدَّمَ المَلِكُ سُلَيمان وكُلّ بَني إسْرائيل ذَبائِح في حَضْرة الله. فَقدّم المَلِك سُلَيمان اثْنَين وعِشرين ألف ثَور ومَئة وعِشرين ألف خَروف. وكَرّس المَلِك والشَعْب بَيْت الله”.

ونجد النحر أيضاً في طقوس الحجّ الإسلامي وفي بعض العادات في البلاد العربيّة في ما يخصّ تكريم الزوّار. وهذا إنّ دلّ على شيء فعلى أنّ الرواية الدينيّة التوحيديّة لم تتأسّس في مجتمع زراعي بل في مجتمع رعاة. ولو كان العكس صحيحاً، لكانت الثمار تأخذ مكان اللحم، كما في الحضارات الزراعيّة في جنوب آسيا حيث نجد الفاكهة والخضار تُقدّم قرابين للآلهة وليس الحيوانات التي لها رمزيّات إلهيّة (وهذا واحد من العوامل التي تُفسّر لماذا لا يأكل البراهمة مثلاً – وهم الطبقة الإجتماعيّة الأعلى في النظام الديني الهندوسي – اللحمة).

***

وتتعدى علاقة الطعام بالدين إلى أمور أخرى، كالصوم والإمتناع عن الأكل لمدّة معيّنة من النهار والذي عادةً يمتدّ لبضعة أياّم، أو شهر أو أكثر (كصوم شهر رمضان، والصوم الأربعيني عند معظم المسيحيّين). وهناك عادة التحريم المتعلّق ببعض المأكولات (لحم الخنزير عند المسلمين، أو بعض الحيوانات البحريّة عند اليهود وبعض المسلمين، أو اللحم أثناء الصوم الأربعيني عند المسيحيّين).

وهناك أيضاً علاقة للطعام بالإضّطهاد، كما حصل مثلاً مع المسيحيّين الأوائل في أوائل القرن الثاني للميلاد بتحريم أكل اللحمة المُضحّى بها في الهياكل الوثنيّة (وهو ما نجد مثيلاً له في القرآن). فحصل انهيار في تجارة هؤلاء وسبّب خسارة ماليّة للمتنفّعين من الهياكل (وللجزّارين)، فقامت القيامة على المسيحيّين. ويُمكن أن نضيف أمثلة أخرى حديثة، مثل بعض الصدامات التي تحصل في الهند بين بعض الهندوس والمسلمين حول ذبح البقر وأكل لحمها.

ويلفت الانتباه هنا استمرار تقليد قديم هو عادة حرق البخّور في الكنائس والمزارات وبعض أماكن العبادة، وهو مأخوذ من عادة حرق البخور عبر استخدام المُر أو اللُبان (مثل المِسْكَة) في المعابد من أجل التغطية على الروائح المتعلّقة بالأضحية.

وبسبب انتشار الديانات التوحيديّة، انهارت تجارة البخور ولم يعد لها ذلك الدور القديم الذي استفاد منه من زرع شجر المرّ أو الكُندُر، ومن تاجر بصمغها ومن نقله في القوافل. فاكتشف الناس استخدامات جديدة لتلك الصموغ، أهمها المتعلّقة بالطعام، مثل مشروب الجلّاب (الذي “يتنشّق” بخار المسكة)، وحلوة القشطليّة (التي يطحن من أجلها بعض المسكة ويمزج بالحليب المغلي والنشا والسكّر)، والبوظة الشاميّة (تُضرب المسكة بالثلج والسكّر وبعض الحليب).

ويستخدم البعض الطعام من أجل “التزريك” على غيرهم. مثلاً، هناك طبق مشهور عند أهل بلاد الشام يسمّونه “لبن أُمُّه”، والتسمية هدفها السخرية من اليهود الذين يُحرّمون ذلك (التحريم موجود بحرفيّته في سفر التثنية، الإصحاح 14، الآية 21: “ولا تَطْبخوا جَديّاً بِحَليب أُمّه”).

***

في الخلاصة، الطعام مرآة للعادات والتقاليد منذ بدء التاريخ حتى يومنا هذا.. والطعام هو معجم لغوي يجمع فيه البشر عباراتهم وتصوّراتهم وقناعاتهم التي شكّلوها عبر التاريخ، خصوصاً في ما يتعلّق بالأديان.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  حميدتي.. تاجر الإبل الذي صار قائد ميليشيا بالسودان
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  لقاء بايدن ـ بينيت.. إيران وصواريخ حزب الله الدقيقة