

جرت العادة أن يستغرق رئيس الولايات المتحدة أكثر من مائة يوم في ترتيب بيته الداخلي، لكن دونالد ترامب قدّم نموذجاً مختلفاً، إذا أن دينامية وصوله إلى البيت الأبيض أدت إلى فرض اتفاق وقف اطلاق بين لبنان وإسرائيل في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2024 وفي منتصف كانون الثاني/يناير 2025 بين حركة حماس وإسرائيل (قبل أن ينقلب عليه الإسرائيليون في الأيام الماضية)، وترافق ذلك مع تسونامي أميركي ضاغط لوقف الحرب الروسية الأوكرانية وفرض أجندة دولية تتصل بالتعرفات الجمركية وتعديل حدود دولية من خلال المطالبة بضم كندا وغرينلاند وقناة بنما إلى بلاده لأسباب إقتصادية.
وفي خضم التصريحات المتتالية التي أطلقها، أعلن ترامب في السابع من هذا الشهر أنّه وجه رسالة إلى المرشد الإيراني السيد علي خامنئي يدعوه فيها إلى استئناف المفاوضات، محذراً من أن بديلها سيكون خيار الضغط العسكري.
وقد سارع الإيرانيون بلسان المرشد وعدد من المسؤولين إلى الرد بالقول إن طهران لن تتفاوض تحت الضغط وأن نموذج الضغط الذي مارسه ترامب على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لا يسري على القادة الإيرانيين.
وكان لافتاً للانتباه أن موقع “أكسيوس” نقل عن مسؤول أميركي ومصدرين مطلعين أن ترامب حدّد مهلة شهرين للرد على رسالته إلى خامنئي، وربطوا ذلك ببرنامج إيران النووي الذي حقّق تقدماً كبيراً خلال السنوات الأربع الماضية (ولاية جو بايدن) وبالتالي أصبحت طهران “أقرب من أي وقت مضى لإنتاج سلاح نووي”!
وقال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إن رد إيران على رسالة ترامب “قيد الإعداد وسيتم تقديمه قريباً عبر القنوات المناسبة”، وأضاف “جوابنا سيأخذ جميع أبعادها (الرسالة)، سواء التهديد أو الفرص”.
وكانت دولة الإمارات قد تولت نقل الرسالة الأميركية، قبل أن يتوجه وزير الخارجية إلى سلطنة عمان، في زيارة قيل إنها متصلة بالملف ذاته الذي كان قد دخل عليه القطريون بعد فترة وجيزة من وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
وقد صرَّح، علي عبد العلي زاده، المستشار الخاص للرئيس الإيراني، في 31 كانون الأول/ديسمبر عام 2024، بأن القيادة الإيرانية توصلت إلى قناعة بضرورة إجراء مفاوضات مباشرة مع واشنطن، مشيراً إلى الحاجة الماسة لسياسة خارجية جديدة تتسم بالمرونة للدفاع عن المصالح الوطنية الإيرانية. هذا الموقف تراجع عنه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بقوله إننا نلتزم بقرار المرشد الذي رفض التفاوض مع الأميركيين تحت الضغط، لكن هذا الموقف بيّن أن ملف التفاوض يحظى برعاية خاصة من مكتب المرشد، وبالتالي ثمة إرادة إيرانية باعطاء التفاوض فرصة كبيرة، برغم الضغط الإسرائيلي على إدارة ترامب لفرض جدول أعمال بديل يتمثل باللجوء للخيار العسكري.
دوافع إيران نحو التفاوض
يمكن تفسير أي تحول في موقف طهران باتجاه أولوية المفاوضات ربطاً بعوامل أساسية تدفع القيادة الإيرانية إلى التفكير في التفاوض مع إدارة ترامب، على الرغم من انعدام الثقة والعداء المتبادل والتجارب السابقة، وهذه العوامل نوجزها بالآتي:
أولاً؛ عودة سياسة “الضغوط القصوى”:
تُدرك إيران أنه مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تم تزخيم سياسة “الضغوط القصوى” التي أثرت بشدة على الإقتصاد الإيراني خلال ولايته الأولى، ففرض ترامب عقوبات مشددة على طهران بعد انسحابه من الاتفاق النووي في العام 2018 ما أدى إلى تدهور العملة الإيرانية وتراجع الاحتياطيات النقدية، وتفاقم الأوضاع الإقتصادية وتسجيل انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي، في مؤشر على تدهور البنية التحتية التي عجزت الشركات الإيرانية عن تطويرها بعد انسحاب الاستثمارات الأجنبية. كما تعلم القيادة الإيرانية أنه مع استمرار هذه السياسة ثمة انهيارات أعمق في إقتصادها وعملتها (من المحتمل أن يتجاوز سعر الدولار 100 ألف ريال إيراني) وخدماتها، ما يجعل البحث عن تخفيف العقوبات عبر التفاوض خياراً أكثر واقعية.
المرحلة القادمة الممتدة من الآن وحتى الصيف المقبل، ستكون حاسمة في تحديد مستقبل إيران على الصعيدين الداخلي والخارجي.. طالما أن الجانبين الأميركي والإيراني متفقان على أن الإتفاق النووي (2015) أصبح من الماضي ولا بد من صيغة جديدة تحكم علاقة الطرفين
ثانياً؛ تراجع الدعم الدولي من الحلفاء التقليديين:
تعاني إيران من تضاؤل الدعم الدولي من قِبَل القوى الكبرى مثل روسيا والصين، فموسكو التي تنخرط بشكل مكثف مع الإدارة الأميركية الجديدة في مسار وقف الحرب الأوكرانية، ليست في موقع يسمح لها بتقديم دعم حاسم لإيران، وفي الوقت ذاته يبدو أن بكين ترسل إشارات إلى إيران بضرورة التوصل إلى تسوية مع واشنطن، وبخاصة في ظل حاجة الصين إلى إستقرار الأسواق النفطية وضمان إستمرارية إمداداتها من الطاقة وعدم تعرضها لخضات وأزمات في هذا القطاع الحيوي الذي تحتاجه لاستمرار وديمومة وإستقرار دورة انتاجها المتنوعة.
أضف إلى ذلك أن الصين وروسيا تبنَّتا مواقف في بعض الملفات الإقليمية تُظهر عدم توافقهما مع السياسات الإيرانية، مثل دعمهما للمطالب الإماراتية بشأن الجزر الثلاث المتنازع عليها ومسارعتهما للتطبيع مع الواقع السوري الجديد، ناهيك بالخشية من تمدد أثر “الضغوط القصوى” على الشركات الكبرى في كلا البلدين إذا خرقت العقوبات المفروضة على إيران ولا سيما العقوبات النفطية، وهذه المواقف تُبرز محدودية الاعتماد على الحلفاء التقليديين.
ثالثاً؛ مخاطر ومخاوف تفعيل “آلية الزناد”:
تخشى إيران في حال عدم التوصل إلى اتفاق جديد بينها وبين الولايات المتحدة أن تبادر الدول الأوروبية إلى تفعيل “آلية الزناد” أو “سناب باك” (هذه الآلية هي من البنود الأساسية في الاتفاق النووي وتتيح للأطراف التخلي عن محتوى الاتفاق وإنهاءه)، ما قد يؤدي إلى إعادة فرض عقوبات دولية عليها من خلال مجلس الأمن الدولي. هذا السيناريو يُمثل كارثة محتملة لإيران، التي تعتمد بشكل كبير على صادراتها النفطية برغم العقوبات الأميركية، وبالتالي فإن أي تصعيد جديد قد يُعقِّد قدرة إيران على الالتفاف على العقوبات وتصدير النفط، خصوصاً إذا ضغطت واشنطن على الصين لوقف استيراد النفط الإيراني كلياً.
رابعاً؛ مخاطر الخيار العسكري:
تُدرك القيادة الإيرانية أن احتمالية التعرض لضربة عسكرية واسعة النطاق أصبحت أكثر واقعية، وبخاصة في ظل تزايد التقارير عن تقدم البرنامج النووي الإيراني. ويقول موقع “أكسيوس” نقلاً عن مصادر أميركية أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% بات كافياً لصنع ست قنابل نووية، إذا تم رفع التخصيب إلى نسبة 90%، حسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهذا الأمر يحتاج فقط إلى قرار سياسي.
كما أن انهيار النفوذ الإقليمي الإيراني في سوريا بعد سقوط نظام بشار الاسد، وتراجعه في لبنان بعد الضربات القاسية التي تعرضت لها القدرات العسكرية لحزب الله، وتدمير غزة وفقدان حركتي حماس والجهاد الإسلامي الكثير من قدراتهما وامكانياتهما، كل ذلك يجعل إيران أكثر عرضة للضربات العسكرية.
الخيارات الإيرانية
برغم تزايد الدوافع للتفاوض إلا أن إيران ليست مستعدة، حتى الآن، إلى تقديم تنازلات كبيرة طالما لم تتوفر ضمانات بالحصول على مكاسب واضحة، وبالتالي ستستمر طهران في توجيه رسائل متضاربة كأن تُظهر انفتاحها على التفاوض مع الولايات المتحدة، لكنها في الوقت ذاته تؤكد عدم تخليها عن برنامجها النووي، وهذا التكتيك يمنح إيران مساحة للمناورة.. ويُبقي خياراتها مفتوحة من خلال الآتي:
1 ـــ توسيع العلاقات مع القوى الدولية: تحاول إيران تعزيز علاقاتها مع دول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي والهند، بهدف تقليل الاعتماد على الصين وروسيا، هذه السياسة قد تُسهم في خلق توازن جديد في علاقاتها الدولية.
2 ـــ تعزيز الدفاعات الداخلية: تُركز إيران على تطوير قدراتها العسكرية والدفاعية لتحسين موقفها التفاوضي في مواجهة أي تهديدات عسكرية محتملة.
التحديات المستقبلية
برغم التحركات الإيرانية، ما تزال هناك العديد من العقبات التي تُعقِّد مسار التفاوض مع إدارة ترامب، وأبرز هذه العقبات هي:
1 ـــ تصلُّب موقف إدارة ترامب: تُظهر التجربة السابقة أن ترامب لن يقبل بتقديم تنازلات كبيرة لإيران من دون تحقيق مكاسب واضحة.
2 ـــ الضغوط الداخلية في إيران: تواجه القيادة الإيرانية انتقادات واسعة من النخب السياسية والرأي العام، مما يجعل تقديم تنازلات في المفاوضات أمراً صعبا، ومن الواضح أن الخطة الأميركية الإسرائيلية تُحاكي إمكان اندلاع اضطرابات داخلية واسعة بالتزامن مع أي ضربة عسكرية محتملة.
3 ـــ انعدام الثقة المتبادل: العلاقات بين القيادة الإيرانية وإدارة ترامب محكومة بمناخ انعدام الثقة بين الجانبين منذ خروج هذه الإدارة من الاتفاق النووي في العام 2018، ما يجعل الوصول إلى تفاهمات دائمة أمراً بالغ التعقيد والصعوبة.
ختاماً، في ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها إيران، يُصبح خيار التفاوض مع إدارة ترامب ضرورة استراتيجية لتجنب الأسوأ. ومع ذلك، فإن نجاح هذا الخيار يعتمد على قدرة القيادة الإيرانية على تقديم تنازلات مدروسة من دون أن تُضعِف موقفها الداخلي، وفي الوقت ذاته تحقيق تفاهمات كفيلة بتلبية أبرز مطالب إدارة ترامب، وبالتالي يبقى المستقبل مفتوحاً على جميع الاحتمالات، لكن المؤكد هو أن المرحلة القادمة الممتدة من الآن وحتى الصيف المقبل، ستكون حاسمة في تحديد مستقبل إيران على الصعيدين الداخلي والخارجي.. طالما أن الجانبين الأميركي والإيراني متفقان على أن الإتفاق النووي (2015) أصبح من الماضي ولا بد من صيغة جديدة تحكم علاقة الطرفين، يريدها الأميركيون فضفاضة لتشمل الصواريخ الباليستية والمُسيّرات والنفوذ الإقليمي، بينما تريدها إيران صيغة كفيلة برفع العقوبات الإقتصادية والسماح لها بالانخراط في النظام الإقتصادي العالمي والاعتراف بها دولة إقليمية.