ترامب و”الدولة العميقة”.. وثالثهما “وثيقة MAGA”!

شعار «لنجعل أميركا عظيمة مجددًا» (MAGA) لا يُهدّد الداخل الأميركي فقط، بل ينظر إلى «أوروبا القديمة» بوصفها حضارة آيلة إلى التراجع. السؤال: لماذا ترى «أميركا ترامب» أوروبا من زاوية الانحطاط الاقتصادي والاجتماعي والعسكري؟ أما الجواب فهو بسيط: لأن هذه النظرة جزء من استراتيجية مدروسة، وليست مجرّد انطباع شخصي أو نزوة سياسية.

التهريج الذي يثيره الرئيس الأميركي هو ما يخدعنا. لا يجب أن ننسى أنه نجح في الكوميديا الارتجالية (المونولوج الكوميدي stand-up)، وهو نوع كوميدي يجعل الحاضرين “شهودًا» على قصص مشوّقة تجذب الانتباه.

يتحدث ترامب بشكل دائم عن «الدولة العميقة» (Deep State)، وهي تعني وجود تسلسل هرمي موازٍ للحكومة داخل الدولة، يُمسك سرًا بسلطة اتخاذ القرارات أو التأثير في مسارها وانعكاساتها على المجتمع. قوة قادرة على الصمود أمام المتغيرات السياسية، وتحافظ على نفسها بطريقة متماسكة، فلا تتأثر مساراتها بتبدّل الحكومات، بل تتجنب مواجهة الحكومات مباشرة، ولا تتصلّب أو تنكفئ في حال وجود معارضة سياسية أو اجتماعية لتوجهاتها.

يشير ترامب دائمًا في تعبيره عن «الدولة العميقة» إلى مؤامرة سرية تُحاك في الخفاء، وهو ما يؤجّج مشاعر الحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية. لكنه في الواقع يُندّد بدولة يعتمد هو عليه (أو بالعكس، الدولة العميقة هي من تُدير ترامب).

لا ضرورة لأي مصادر أو معلومات موثوقة، فالدولة العميقة لا أسرار فيها، بل هي السر العميق نفسه. تتبع مسارًا للحفاظ على مصالح «الدول الظاهرة»، وتتجنب كل الإعاقات التي قد تبرز في القوانين أو الإعلام أو في إطار عمل المنظمات غير الحكومية التي تعرقل خططها… من حيث لا تدري.

بهذا المعنى، ما تُسمّى «رؤية ترامب» في “وثيقة الأمن الاستراتيجي” (New Strategic Security)، التي صدرت في 5 كانون الأول/ديسمبر، هي من صنع «الدولة العميقة»، التي تلاقت رؤاها مع تطلعات ترامب اللاهث وراء الأضواء. وثيقة من (33 صفحة) تغطي حقولًا عدة وبدرجات مختلفة، وتشمل رؤية شاملة لموقع أميركا ومصلحتها حول العالم، تتجاوز بمراحل ما يمكن أن يقرّره ترامب في هذه الفترة القصيرة من ولايته الثانية.

هذا التوجه الجديد ليس من بنات أفكار ترامب الذي سيحتفل بعد شهر بنهاية سنته الأولى في البيت الأبيض، لكن «مخططات الدولة العميقة» تتلاقى مع فلسفة وأفكار ترامب اليمينية «الليبرالية». دور ترامب الحالي هو فقط «التخلص من كل معارضي هذا التوجه داخل الإدارة الأميركية». من هنا نتابع «طرد» عشرات الآلاف من الموظفين في مواقع مفصلية في مختلف أركان الحكم (200 ألف حتى 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، حسب وكالة الصحافة الفرنسية وراديو فرنسا). لم تشهد أميركا، ولا حتى أي دولة، موجات طرد موظفين بهذا الحجم، باستثناء الثورة الثقافية الصينية في عهد ماو تسي تونغ، أو حكم بول بوت في كمبوديا.

لقد جرى المزج بين من يعارض ترامب لأسباب شخصية، وبين من يقف في وجه توجهات الدولة العميقة التي رأت أن الوقت مناسب لتنفيذ ما أُعدّ في الخفاء منذ انطلاق حركة «حزب الشاي» والأزمة المالية عام 2008. وإن وصول «ماغا» (MAGA) إلى الحكم سهّل البدء بتنفيذ هذه السياسة. المهم أنه حصل توافق بين ما يراه ترامب جيدًا لأميركا، وبين ما تخطط له الدولة العميقة لضمان ديمومة هيمنة الولايات المتحدة.

لذا، لن يتوقف ترامب عن التنديد بالدولة العميقة، من دون أن يدري أن الطاعة التي يراها تحيط به هي تحت إدارة الدولة العميقة نفسها التي يندد بها!

تعتمد هذه الرؤية على هوس بالهوية والقومية، أي كل ما يغذّي مخاوف الطبقات الفقيرة: الخوف من الأجانب، من المهاجرين، ومن التغيرات الكبرى التي تُشكّل المجتمع.

خطة الدولة العميقة تستغل ظاهرة الخوف لدى الحليف التقليدي، أوروبا، لا بل تشجّعها. وهذا يخدم الأهداف الراسخة في تخطيط متقن للغاية. من هنا صدرت وثيقة “الأمن القومي» (NSS) وغايتها محددة. وكما قلنا أعلاه، لا ينبغي أن نُعزي كل شيء إلى تهوّر ترامب وجنونه. إنها استراتيجية محكمة التخطيط لها منذ زمن يتجاوز ولايتي ترامب، وإن كان هذا الأخير يريد تسليط الضوء على نفسه.

مع ظهور الذكاء الاصطناعي (AI)، الذي تُضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد الأميركي بسببه، أدرك من يمسك بالخيوط من وراء الحكومات أن هذه هي اللحظة المناسبة لإظهار نزعتها الإمبريالية الصارخة. فهي تسعى بقوة إلى تقسيم هذا «العالم-القرية» إلى ثلاث كتل تتقاسمه مع الصين وروسيا، وهو ما يناسب أميركا تمامًا.

لكن حتى تنجح هذه الخطة، كان لا بد من إخضاع أوروبا، تلك الأوروبا التي، بسبب «الاتحاد الأوروبي»، تخنق أي تغيير يتماشى مع المخاوف الأميركية. يجب أن تخضع الهجرة في أوروبا لقوانين مشابهة للقوانين الأميركية التي كانت قيد التحضير لدى إدارة الهجرة والجمارك الأميركية (ICE)، وأُطلق عنانها مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
يجب أن تتخلى أوروبا عن كل المسائل المتعلقة بالتغير المناخي، وخصوصًا أن الولايات المتحدة أصبحت في العقدين الماضيين المنتج الرائد عالميًا للهيدروكربونات.

حرية التعبير يجب أن تكون لها حدود، لا يفرضها القانون بل مصلحة الدولة. فالتعديل الأول للدستور الأميركي تحدّه قرارات المحكمة العليا، كما نرى منذ سنة، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالأقليات الجنسية والجندرية واللاجئين. ومن هنا، بعد أن كُمّمت أفواه الناشطين على الأرض الأميركية، يجب على أوروبا أن تتبع هذا المسار: «إنه النظام الأميركي الجديد». وليس على القادة الأوروبيين تجاهل تحالف الماضي، بل عليهم اللحاق بهذه التغييرات الثورية.

إقرأ على موقع 180  مع القيصر في قصره.. و"قلبه"

إن هوس حركة «لنجعل أميركا عظيمة مجددًا» بالهوية، والذي يركّز على أوروبا، لا يسعى إلى النأي بنفسه عن القارة العجوز، بل على العكس، تريد هذه الحركة تشكيل أوروبا على صورتها. ومن هنا جاء التقارب مع المجر وسلوفاكيا، وحتى إيطاليا، وكذلك مع اليمين في فرنسا، وخصوصًا في ألمانيا.

وهذا تمامًا ما نطق به نائب الرئيس الأميركي جي. دي. فانس في 18 شباط/فبراير 2025، في مؤتمر الأمن في ميونيخ، حيث ترنّح تحت صدمة انتقادات جميع زعماء أوروبا، قبل أن يجلسوا، بعد أقل من سنة، في صف واحد أمام ترامب في المكتب البيضاوي، في 18 آب/أغسطس 2025.

كان ترامب في الواجهة فقط، يقدّم ما عملت عليه «الدولة العميقة» منذ عقود، بهدف إعادة إحياء الهوية القومية الغربية في أوروبا أيضًا، من خلال تسليط الضوء على التحيزات العنصرية، والتأكيد على جوانب من المسيحية والقومية البيضاء، وبالتالي تعزيز الكتلة الغربية تحت المظلة الأميركية، وفرض المبادئ التي سيسير «الغرب» على نمطها.

وخلافًا لما يصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فهذه ليست «نزعة دولية رجعية»، بل هي، على العكس، سياسة تقارب على جانبي المحيط الأطلسي، تتزامن مع صعود الذراع المالية الرقمية التي يمتلكها الأميركيون، والتي تعزّز نفسها بالترويج لقوانين تُطبّق خارج حدودها، أي قوانين القوة العسكرية والاقتصادية.

تشعر الصين وروسيا بالرضا، على أساس أن هذا المسار يمثل نهاية الهيمنة الغربية، لكن هدف واشنطن هو عكس ذلك تمامًا. يريد الأميركيون، بقيادة الدولة العميقة، إجبار أوروبا على اتباع نهجهم، من خلال تفكيك جميع القيود القانونية التي تعيق زخم هذه الحركة (قوانين الهجرة، اللوائح الاقتصادية، حماية المناخ، إلخ)، من أجل بناء غرب قوي.

إن “مبدأ مونرو” (السلام بالقوة)، الذي يُطبّق على أكمل وجه في فنزويلا ودول الجنوب الأميركي، سيشمل أوروبا الغربية… شاءت أم أبت. الوثيقة صريحة جدًا: ستضطر جميع الدول الأوروبية للخضوع لحماية الولايات المتحدة، واتباع توجيهات هذه الإمبريالية الحديثة للاستفادة من المساعدات والحماية العسكرية و… خدمات الأقمار الصناعية!

أليس هذا ما يتحدث عنه «مسار السلام في أوكرانيا»؟ البحث عن حماية وضمانات أميركية.

ماذا تقول الوثيقة حول «الشركاء في الخليج»؟ (لاحظ أنهم شركاء لا حلفاء). تشيد بهم وتُظهر التزام شركاء الشرق الأوسط بمكافحة التطرف، وتدعو إلى تشجيعهم. لكنها تعلن حرفيًا ضرورة «التخلي عن التجربة الأميركية الخاطئة في إجبار هذه الدول، وخصوصًا ممالك الخليج، على التخلي عن تقاليدها وأشكال حكمها التاريخية». أي أنها تشجع الإصلاحات «من دون محاولة فرضها»، أي، بمعنى مباشر، «قبول المنطقة وقادتها ودولها كما هي». هذا المقطع في الوثيقة يشير إلى أن جورج بوش الابن ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس كانا من معارضي «الدولة العميقة»، وكانا يريدان فرض الحرية في «شرق أوسط جديد».

بعد أن تترسخ هذه السياسات على وقع خطط «الدولة العميقة الأميركية»، يمكن للغرب أن يلتفت نحو الكتلتين الرئيسيتين: الصين اقتصاديًا، وروسيا في سباق التسلح، وقبل كل شيء في سباق الحصول على المواد الخام، لتقاسمها بين الكتل الثلاث.

(*) بالتزامن مع “أخبار بووم

Print Friendly, PDF & Email
بسام خالد الطيّارة

كاتب لبناني وأستاذ جامعي مقيم في باريس

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  ترامب وقطع شطرنج الشرق الأوسط