انتهى عصر الأوهام.. ماذا بعد؟

منذ نشأة لبنان الكبير في العام 1920 حتى سقوط نظام آل الأسد في سوريا، مررنا باختبارات وتحديات صعبة تتطلب منا إعادة تقييم الماضي بجرأة ونقد ذاتي بنّاء. هل يمكننا التأقلم مع التغيرات بسرعة؟ وهل نستطيع متحدين إعادة تحديد أهدافنا وأولوياتنا؟

بعد سنوات من المآسي، ما نزال نتخبط في عالم من الفوضى، ولا نعرف كيف نبدأ من جديد، أو ما ينتظرنا في المستقبل القريب أو البعيد.

إذا تعمّقنا في الصراع المستمر بين “محور المقاومة” من جهة وأمريكا وإسرائيل وحلفائهما من جهة ثانية، بعيدًا عن التحليلات العاطفية وركزنا على المؤشرات والأرقام، قد نستنتج الكثير عن أسباب إخفاقات هذا “المحور” والمأساة التي نعيشها حالياً.

لقد بلغت ميزانية الدفاع الأمريكية في العام 2024 حوالي ٩٦٠ مليار دولار، أي ما يعادل ٩٦ ضعف ميزانية الدفاع الإيرانية المُقدّرة بحوالي ١٠ مليارات دولار. هذه الفجوة الهائلة تتكرر سنويًا، وقد يتجاوز مجموعها ٧٠٠٠ مليار دولار في العقد الأخير فقط.

هذه ليست أرقام وحسب بل تعكس الفارق الكبير في القدرات بين المحورين، والأهم القدرة على الصمود في حروب الاستنزاف الطويلة. ومن غير المنطقي الاعتماد على أمثلة تاريخية مثل انتصار فيتنام على أمريكا لتأكيد أوهام القدرة على النصر. فيتنام انهارت اقتصاديًا بعد عقد من الحرب العسكرية، وتحولت إلى يد عاملة رخيصة تخدم مصالح الدول الغربية. “محور المقاومة” لا يقود الصراع بالمعطيات والموارد نفسها، وقد يكون من مصلحة الغرب أن “ينام” هذا “المحور” على مثل هكذا وهم!

هل نريد أن نبقى مجرد حقل تجارب وصندوق بريد للدول الكبرى، نعيش هوس انتصارات لن تتحقق؟ أم نهاجر هربًا إلى حيث نجح الآخرون في بناء أوطانهم، بعد أن أشبعنا ساستنا أوهام قوة وانتصارات؟

استخلص الغرب وإسرائيل الكثير من العبر والدروس خلال العقود الأربعة الماضية، وطوّروا أسلحة متقدمة جدًا في المجالات العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية، مدعومين بموارد مادية وبشرية هائلة. الفارق في القوة العسكرية أصبح شاسعًا مع القوى الأخرى. لذلك، لا بد من مراجعة جدوى المواجهة العسكرية، وما إذا كانت وسائل جديدة، هذا إذا كانت المواجهة ما زالت ضمن سلم أولوياتنا.

في تجارة الأسلحة، نجد أن أكثر من نصف إنتاج السلاح الأمريكي يباع في منطقة الشرق الأوسط. السعودية تنفق أكثر من سبعين مليار دولار سنويًا على الدفاع، ما يعادل سبعة أضعاف ما تنفقه إيران. هذه الأرقام تثير تساؤلات حول دور إيران غير المباشر في تعزيز مصالح الشركات الغربية من خلال بناء هذه الترسانات العسكرية الضخمة في محيط إيران. ربما، ومن دون أن تدرك، قدّمت إيران خدمات كثيرة للمصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة. ولكن من المؤكد أن إيران تدرك حجمها الفعلي وتتجنب المواجهة المباشرة مع هذا الحلف.

الناتج القومي للبنان لا يتجاوز 25 مليار دولار سنويًا، وهو أقل من ميزانية الدفاع الإسرائيلية التي تخطت الـ30 مليار دولار. الفارق في الناتج القومي والقوة الاقتصادية بين البلدين هائل. قد تنجح الإرادة الشعبية في تغيير بعض المعادلات، ولكنها لا تكفي وحدها، وبخاصة أن أسلحة المواجهة تطورت، ولم تعد ترتكز فقط على الأسلحة التقليدية.

أعتقد أنه حان الوقت لإعادة تقييم أخطائنا وتحديد أهدافنا بشكل واقعي وعلمي. يجب أن يكون ناتجنا القومي أكبر بعشرين مرة مما هو عليه اليوم لنبدأ التفكير في دخول أي لعبة من ألعاب الأمم. وربما يجب أن نبني لوبيًا عالميًا يخدم أهدافنا في كل دولة مؤثرة. ومن الضروري إعلان الحرب على ثقافة التفرقة بين الطبقات والفئات لضمان الوحدة الداخلية في أي مواجهة مقبلة. هذه التحديات والأهداف تستغرق عقودًا وإرادة قوية لتحقيقها. إذا نجحنا، قد يتمكن أولادنا يومًا من اختيار معارك يمكنهم الانتصار فيها.

أما نحن، فعلينا الاختيار: هل نريد أن نبقى مجرد حقل تجارب وصندوق بريد للدول الكبرى، نعيش هوس انتصارات لن تتحقق؟ أم نهاجر هربًا إلى حيث نجح الآخرون في بناء أوطانهم، بعد أن أشبعنا ساستنا أوهام قوة وانتصارات؟ أم نبدأ بالعمل على وضع أسس صحيحة لولادة وطن قوي ينتصر فيه جميع أبنائه؟ وهل من سبيل للخروج من هذه الدوامة المستمرة منذ أكثر من مائة سنة؟

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "هآرتس" عن الاتفاق النووي.. "أصبح منجزاً"
يوسف نعيم

مهندس لبناني، ناشط في المجال الثقافي ومؤسس مجتمع "بيروت للجاز"

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  المصالحة السورية ـ التركية.. آتية