لماذا تعمدت “الفصائل” تصوير مجازر الساحل السوري؟

عادةً ما يعمل المجرم على إخفاء معالم جريمته، خوفاً من العقاب والوصم الاجتماعي، بدءاً من المجرم الجنائي الذي يقتل بهدف السرقة أو الانتقام الشخصي، وانتهاءً بالإجرام الذي تتميز به الأنظمة القمعية الشمولية.

لعلّ نظام آل الأسد كان على مدى عقود طويلة المثال الأبرز، وإن كان بعض المرتكبين يُصوّرون جرائمهم لكنهم يحرصون على عدم نشرها للعلن، إلا ضمن نطاق ضيق، فقد ظل فيديو “مجزرة التضامن” سنوات طويلة حبيس الدائرة الضيقة لأمجد يوسف ورفاقه، إلى أن تم تسريبه ونشره بعد وقت طويل..

كذلك تصوير جثث المعتقلين في صيدنايا وتدمر وبقية المعتقلات الوحشية، كان يتم بهدف التوثيق، وربما لأغراض أخرى منها التأكد من تصفية الشخص المستهدف، أي لغايات سياسية وأمنية يُقررها أيُّ نظام قمعي عسكريتاري شمولي، وهذا لا يُبرر شناعة الجريمة أو يُقلل أبداً من فظاعتها.

أريحية التصوير

أما في مجازر الساحل السوري، التي ارتكبتها قوات (أو ميليشيات) عسكرية كان الرئيس السوري أحمد الشرع قد أعلن دمجها تحت راية وزارة الدفاع السورية في مؤتمر النصر بموافقة علنية من قادة تلك المجموعات المنضوية تحت راية “هيئة تحرير الشام”، فقد كان مسلحو الفصائل يقومون بتصوير عمليات القتل الطائفي ويوثقونها بالزمان والمكان، بدقة عالية وبكل هدوء وتروٍ، فيما أصوات الضحك والسخرية تعلو لدى القاتل المصور، هذا التصوير المريح يُعتبرُ بحد ذاته عامل إدانة، يدحض السردية التي تدّعي أنّ الضحايا المدنيين قتلوا عن طريق الخطأ أو لأنّ “الفلول” قد أطلقوا الرصاص على الأمن العام من بين المنازل أو أنّ هؤلاء المدنيين حملوا السلاح!

كل تلك التبريرات تسقط أمام أريحية التصوير الذي يُدلل على عدم وجود مواجهات أو اشتباكات حقيقية في المناطق التي تم التصوير فيها، مع العلم أنّه في بعض القرى تم إطلاق النار على الفصائل والأمن العام بعد اقتحامها، ولكن ما هو المنطق الذي يمنع شخصاً لديه سلاح فردي في منزله من إطلاق النار على مسلحين يريدون دخول بيته لذبحه، وهم يقولون ذلك صراحةً وعلانيةً في مقاطع مصورة ينشرونها ويتفاخرون بها؟

توثيق ملابسات الجريمة

توثق المقاطع الأسباب الموجبة للقتل “أنت شو؟ علوي؟.. والله لندعس عليكم يا علويين“، كما يوثق الفيديو ثياب الضحية وهي ثياب مدنية في أغلبيتها العظمى، “بجامة نوم” وليست جعباّ عسكرية ودروعاً ورشاشات، ومنهم من كانوا داخل بيوتهم وجرت دماؤهم في غرف منازلهم، وتكومت العائلات على بعضها مودعة الحياة، لتكون آخر صورة تذكارية للعائلة بيد قاتلهم.

ويوضح التصوير أنّ مكان القتل هو منزل الضحية على مرأى من أولاده وزوجته وأمه وأبيه، وكثيراً ما تم قتل عائلات بأكملها، لم ينجُ منها أحد، إلا من كان متواجداً في مكان آخر، وقد يختار القاتل/ المصور الامتناع عن قتل أحد أفراد الأسرة، الأم مثلاً، ويُعطي تبريره بصوته من خلف جهازه الذكي “ما رح اقتلك مشان احرق قلبك عليهم”، وكأنّ القاتل من فرط الوحشية التي يمارسها، أحسّ أنّ الموت قد يكون رحمة لتلك الأم، لذا رأى أنّ الحياة بعد مقتل أبنائها ستعذبها أكثر من قتلها، هنا توثق الكاميرا الدوافع الكامنة وراء هذه الأفعال؛ إنها الغل والحقد والانتقام.

الهدف من التصوير إظهار القوة والترهيب لتثبيط أي مقاومة أو معارضة محتملة، فلهذه المقاطع المصورة قدرة هائلة على التحطيم النفسي لمشاهديها وتعطي رسالة لأبناء القرى والمناطق القريبة والبعيدة أنهم مجرد أهداف وضحايا مع وقف التنفيذ، وتجبرهم على أن يختبروا تلك التجارب في مخيلاتهم والتفكير في الخيارات المتاحة أمامهم لحظة دخول الفصيل إلى بيوتهم

إنه تفكيك نفسي للضحية، وتشجيع على القتل، لكن من دون أي وعي بأنّ هذه التسجيلات قد تستخدم ضدهم في يوم من الأيام، وأنّ قادتهم قد يضطرون لمعاقبتهم وحتى إعدامهم ليتخلصوا من وزر تلك الجرائم الشنيعة، إعلامياً على الأقل

هذا التصوير الفاضح لم يكن بغرض التلاعب بالوقائع أو الاجتزاء أو نقل سردية تعطي الحق للقاتل بالقتل، وإنما توثيقاّ صادقاً لكل ما يثبت أنّ ما حصل ويحصل في الساحل هو في غالبيته العظمى مجازر جماعية بحق عائلات كاملة لأسباب طائفية بحتة، وما هو مستغرب أكثر من التصوير بحد ذاته، هو قيام المجرمين بنشر هذه المقاطع على حساباتهم لتتداولها وسائل الإعلام ومواقع التواصل، وكأنّ هنالك فكرة راسخة لدى القتلة أنهم يفعلون شيئاً جيداً، وكأنهم يتوقعون أن يصفق لهم العالم بأسره على التفنن بقتل مدنيين بينهم أطفال في بيوتهم وأراضيهم الزراعية، وربما كانوا مؤمنين بذلك وصُدموا بردود الأفعال المستنكرة لهم.. أو أن من حرّكهم أراد لهذه الجريمة المصوّرة أن تكون عبرة لمن تسول له نفسه أن يحاول تحدي الأمر الواقع، حاضراً أو مستقبلاً.

التفكيك النفسي للضحية

نعم؛ ربما يكون الهدف من التصوير إظهار القوة والترهيب لتثبيط أي مقاومة أو معارضة محتملة، فلهذه المقاطع المصورة قدرة هائلة على التحطيم النفسي لمشاهديها وتعطي رسالة لأبناء القرى والمناطق القريبة والبعيدة أنهم مجرد أهداف وضحايا مع وقف التنفيذ، وتجبرهم على أن يختبروا تلك التجارب في مخيلاتهم مئات المرات والتفكير في الخيارات المتاحة أمامهم لحظة دخول الفصيل إلى بيوتهم “ما الذي يمكن فعله عند اقتحام البيت؟ هل أعطيهم المال والذهب لأشغلهم عن القتل؟ هل أفكك خزان الطاقة الشمسية الموجود على سطح المنزل كيلا يطمعوا بالاستيلاء عليه كما فعلوا كثيراً؟”

إنه تفكيك نفسي للضحية، وتشجيع على القتل، لكن من دون أي وعي بأنّ هذه التسجيلات قد تستخدم ضدهم في يوم من الأيام، وأنّ قادتهم قد يضطرون لمعاقبتهم وحتى إعدامهم ليتخلصوا من وزر تلك الجرائم الشنيعة، إعلامياً على الأقل.

إقرأ على موقع 180  الإستحقاق الرئاسي السوري.. مفتاح التغيير الداخلي العميق

من الواضح أن المصورين القاتلين أمِنوا العقاب، ولم يخطر في بالهم مبدأ المحاسبة، وربما استغربوا تعليمات عدم التصوير التي شاهدناها في فيديوهات يغضب فيها المتحدث من التصوير أكثر من غضبه من فعل القتل بحد ذاته، وكأنه يقول “اقتل كما تشاء، لكن لا تصور”، وربما بدت مستغربة لدى هذه الجماعات، فمع التجييش الأيديولوجي والتربية الطائفية والتحريض الممنهج، كان هذا هو الطبيعي بالنسبة لمقاتلي الفصائل، وهم في نهاية المطاف لا يمتلكون ما يملكه أحمد الشرع من “براغماتية” حين كفّر العلويين باسم “أبو محمد الجولاني” سابقاً، وجاء اليوم ليبني دولة لجميع السوريين كما هو مُعلن على الأقل، فالتكفير والتحريض يعني إباحة القتل وسفك الدم، حتى يصبح هذا الذبح مهمة مقدسة يُثاب عليها المقاتل في الدنيا والآخرة من وجهة نظره طبعاً.

“خنازير”

نزع الصفة الإنسانية هو استجابة لدوافع متضاربة، إذ نرغب في إيذاء مجموعة من الناس، لكن إيذاء الآخرين أو قتلهم أو تعذيبهم أو إهانتهم يتعارض مع تكويننا الاجتماعي. ويؤكد خبراء علم النفس أن هناك موانع عميقة وطبيعية تمنعنا من معاملة الآخرين كحيوانات أو طرائد أو فرائس، ويعتبر نزع الصفة الإنسانية وسيلة لكسر هذه الموانع.

على مدى سنوات طويلة، تمت تربية هؤلاء المقاتلين بطريقة جعلت لديهم قناعات راسخة بأنّ العلويين النصيريين كفرة ومجرمون و”خنازير“؛ هذه الأوصاف التي تردّدت في معظم المقاطع المصورة بلسان الفصائل خلال المجزرة أو قبلها أو حتى قبل سقوط نظام الأسد، وقد استغل قادة هذه الفصائل تلك المشاعر الطائفية البغيضة في الماضي لبناء مقاتل يستشرس في قتال نظام آل الأسد، أما اليوم فقد تغيرت أهداف القادة من تشكيل كيان إدلب إلى بناء دولة للجميع كما يؤكد مسؤولو الحكومة في تصريحاتهم (حتى الآن ما زالت حكومة إدلب قائمة ولم تُفكك)، واستيعاب هذا التغيير سيكون صعباً وبطيئاً لدى هذه الفصائل، وربما مستحيلاً لدى بعضها.

النزع اللغوي

كلمة “خنازير” ليست مجرد شتيمة، أو مجرد تشبيه الإنسان بالحيوان لسبب طائفي بحت، هي نزع لغوي لإنسانية البشر عبر التشبيه بأكثر الحيوانات المكروهة في الثقافة الإسلامية، فهو حيوان قمّام ومثال للنجاسة، سبقه نزع فكري ولحق به تنفيذ فعلي على الأرض الواقع، إنها خلاصة أيديولوجيا التكفير، التي تنتهي بنزع صفة الإنسانية عن أي فرد ينتمي إلى الطائفة العلوية، ولن يشفع له معارضته لنظام الأسد وقضاء سنوات طوال في معتقلاته.

وتشرح أستاذة الفلسفة ميشيل مايسي، نزع الصفة الإنسانية بأنه عبارة عن عملية نفسية هادفة إلى شيطنة العدو، وجعله يبدو أقل من إنسان، وبالتالي لا يستحق معاملةً إنسانيةً، وغالبًا ما يبدأ نزع الصفة الإنسانية بخلق صورةٍ شريرة للعدو، نبدأ معها بفقدان قدرتنا على الإنصات والتواصل، وحتى ممارسة الحد الأدنى من التعاطف.

تصوير العبادة!

وبمجرد أن نرى أن من هم على “الجانب الآخر” من الصراع باتوا أدنى أخلاقياً وخطرين، يبدأ تأطير المشهد على أنه صراع بين الخير والشر. وعندما تُؤطر الأطراف الصراع بهذه الطريقة، تصبح مواقفها أكثر تشدداً، وأفعالها أكثر قسوة وتبدأ بتشريع الأذى والجريمة.

نزع الإنسانية يجعل القتل أكثر سهولة ويزيح عنه صفته الإجرامية في ضمائر فاعليه، لتصبح إبادة مجموعة بشرية مهمة مقدسة، ترقى لأن تكون عبادة، وكما قال الشيخ أنس عيروط (عضو لجنة التحقيق في مجازر الساحل، ومحافظ طرطوس السابق) في إحدى خطبه قبل سقوط الأسد بوجوب الجهاد ضد الروس والمجوس والنصيريين، وأنه على الجميع أن يتعلم الجهاد ويتدرب عليه ويمارسه، حاله حال الصيام والصلاة والحج، وهؤلاء المقاتلون لم يفعلوا شيئاً سوى تنفيذ ما تم تعليمهم إياه، فكما يتم تصوير عبادة الصلاة والحج، صوّروا عبادة الجهاد الذي تدربوا عليه ودُعيوا إليه، وهم الآن يستغربون انتقادات التصوير من الأفواه ذاتها التي قالت لهم “اذبحوهم”.

وختاماً فإنّ فظاظة التصوير لم تدفع السلطات لإجراءات جدية وحاسمة تمنع القتل، فمنعت التصوير! إذ لم تنتهِ عمليات القتل الطائفي في الساحل السوري حتى لحظة كتابة هذا المقال، وتسجل بشكل يومي حالات خطف وقتل واستيلاء على منازل المدنيين، ويتسلم الأهل جثث أبنائهم وعليها علامات التعذيب من أفرع الأمن الجديد، وآخرون يبحثون عن جثث ذويهم المقتولين من قبل قوات السلطة الجديدة في المشافي، كما ورد في تقرير رويترز حول عمليات قتل العلويين في حي القدم بدمشق، ويخافون السؤال أكثر، لنستنتج أنّ ما توقف في الساحل هو التصوير، وليس القتل.

أما قرار الرئيس السوري الحالي بتمديد أعمال لجنة التحقيق السورية بأحداث منطقة الساحل لمدة ثلاثة أشهر غير قابلة للتمديد، لأجل ضمان الوصول إلى نتائج دقيقة وموثوقة، حسب بيان الرئاسة السورية، فقد أحدث ردود فعل متباينة، بين مرحب بالقرار وبين محذر من أن يؤدي التمديد إلى تمييع القضية، كعادة اللجان في عالمنا العربي!

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتب وباحث سوري

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  صعود اليمين.. إعادة تشكيل هوية أوروبا