

لم تكن هذه الاندفاعة العسكرية مجردَّ استجابة ظرفية، بل شكَّلت تطبيقًا متسارعًا لعقيدة أمنية جديدة، تَجمع بين إعادة الانتشار، والسيطرة المباشرة، ونزع السلاح، وخلق مناطق فاصلة أو عازلة، ضمن ما تُسميه “إسرائيل”.. “الحدود متعددة الطبقات”.
وفي ظل تراجع فعالية الردع التقليدي، وغياب الكلفة الجدية لتحركاتها، تسعى “إسرائيل” إلى تثبيت هذه الاستراتيجية كأمر واقع، وسط غياب ردع مضاد أو استراتيجية مواجهة فعَّالة من القوى الإقليمية المتضررة.
تغيير وجه الشرق الأوسط
في حين افتتحت “إسرائيل” الحربَ بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تحت شعار “استعادة الردع”، سرعان ما تحوَّلت إلى اندفاعة هجومية نحو مشروع أوسَع يُعيد هندسة مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي” وفرض وقائع جديدة، تتجاوز غزة لتطال لبنان وسوريا، بما يحاكي رؤية قديمة – حديثة لدى النخبة “الإسرائيلية” الحاكمة، تتويجًا لمسار طويل من طموحات بنيامين نتنياهو السياسية والعقائدية وتحالفه اليميني المتطرف، لإعادة صياغة بيئة الشرق الأوسط الجيوسياسية.
لم يكن هذا التحول مجرد ارتجال ظرفي، بل جاء متناغمًا مع ما عبَّر عنه نتنياهو نفسه قبل الحرب بأسابيع، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حينما استعرض خريطةً جديدةً للشرق الأوسط مؤكِّدًا أن “اتفاقات أبراهام” أساسُ تشكيلها، وأن التطبيع مع السعودية بات وشيكًا، وأن على الفلسطينيين إدراك أنهم لم يعودوا محور الأحداث.
عكست هذه التصريحات توجهًا “إسرائيليًّا” استراتيجيًّا لإعادة تعريف الصراع، عبر تجاوزِ المسارِ الفلسطيني، وإنهاء ما تبقَّى من مركزية القضية الفلسطينية إقليميًّا. غير أن “طوفان الأقصى” فجَّر هذه الرؤية، ودفع “إسرائيل” إلى تسريع خطواتها بدلًا من مراجعتها، مستغِلةً التواطؤَ الغربي وردودَ الفعل الباهتة إقليميًّا لتبرير حرب إبادة شاملة على غزة اتخذت طابعًا انتقاميًّا وعنصريًّا، حاملةً في طياتها أيضًا محاولةَ فرض وقائع سياسية جديدة في الإقليم.
ما يجري اليوم ليس احتلالًا ميدانيًّا صامتًا فقط، بل هو اختبار استراتيجي لقدرة شعوب المنطقة وقواها الحيَّة على استيعابه والتفاعل معه بمنطق المقاومة المركَّبة، لا التكيُّف البارد مع الوقائع. ومع استمرار غياب الكلفة الحقيقية لاندفاعة الاحتلال، يجد المشروع الصهيوني نفسَه أمام فرصة نادرة لتوسيع الخريطة، دون رصاص، ولا مقاومة جدية
في ظل تراجع الضغوط الدولية الحقيقية، وتهاوي السقوف العربية، وتبدُّد التهديدات الوازنة في الجبهات الأخرى، وُضِعت الأسس الأولى للحظة “الإسرائيلية” الذهبية نحو اندفاعة استراتيجية شاملة ترى في صدمة 7 أكتوبر/تشرين الأول فرصة نادرة لإعادة ترسيم “حدود الردع”، وبناء منظومة أمنية ميدانية جديدة، لا تُبقِي على تفوق “إسرائيل” العسكري فحسب، بل تسمح لها بإعادة هندسة الفضاء الأمني المحيط، بما يشمل مناطق سيطرة فعلية داخل غزة ولبنان وسوريا، تحت مظلة عقيدة “الحسم”.
من التحصين إلى التمدد
في أعقاب الإخفاق الأمني الكبير الذي شكَّله هجوم “طوفان الأقصى”، لم تتوقف “إسرائيل” عند مراجعة تكتيكاتها، بل أعادت صياغة عقيدتها الأمنية جذريًّا، والتي تبلورت في إطار “الحدود متعددة الطبقات”، وهي استراتيجية دفاعية هجومية هدفها السيطرة المسبَقة على ساحات التهديد، لا حمايتها من الخارج فحسب، مرتكزةً على أربع طبقات:
الأولى؛ تقوم على التحصين داخل الأراضي المحتلة، عبر بناء مواقع ثابتة، وحواجز مادية، ووحدات تدخل سريع.
الثانية؛ تمتد إلى ما وراء الحدود، عبر تواجُد عسكري مباشر داخل أراضي الخصوم، بما يعيد إحياء فكرة “المنطقة الأمنية” أو “المنطقة العازلة”، كما يجري الآن في غزة وجنوب لبنان وجنوب سوريا.
الثالثة؛ نزع السلاح من مناطق التماس، ولا سيما في غزة ولبنان ودرعا والقنيطرة في سوريا، لمنع وجود أية قدرة تهديد هجومية مستقبلًا.
الرابعة؛ تقوم على تكامل استخباراتي وجوي دائم، بحيث يصبح سلاح الجو أداةَ تدخُّلٍ ميدانيٍّ سريع، لا مجرد قوة ردع بعيدة.
تهدف “إسرائيل” عبر هذه المنظومة إلى خلق واقع أمني أحادي الجانب، يمنحها السيطرة الجغرافية دون خوض حرب شاملة، ويؤسِّس لحالة “ردع استباقي”، تَمنع الهجوم قبل وقوعه، وتحوِّل البيئةَ المحيطةَ إلى جغرافيا منزوعة الفعل.
إعادة احتلال ميداني
تؤكِّد الوقائع الميدانية أن العقيدة الأمنية الجديدة لـ”إسرائيل” لم تعُد مجرد خطط دفاعية تقوم على التحصينات والتقنيات، بل أصبحت غطاءً لعملية إعادة احتلال ميداني، تُنفَّذ على مراحل، وتتسع رقعتها في ثلاث ساحات رئيسية: غزة ولبنان وسوريا. فالمناطق العازلة التي تُقام تحت ذريعة “منع التهديد” لا تُدار بوصفها مساحاتٍ فاصلة، بل تتحول إلى خطوط تمركز عسكري دائم، مع مصادرة جغرافيا مدنية كانت جزءًا من سيادة الأطراف المستهدَفة.
في قطاع غزة، بدأ الاحتلال في فرض منطقة عازلة تمتد على طول الحدود الشمالية والشرقية بعمق يصل إلى كيلومتر (أكثر من 16% من مساحة القطاع)، وعلى الرغم من تكرار المقاومة رفضها لهذه الوقائع في سياق مفاوضات التبادل، واشتراطها الانسحاب الكامل من أراضي قطاع غزة، أصرَّت “إسرائيل” على إبقاء وجودها في هذه المناطق، مبرِّرةً ذلك بأنها “مناطق أمنية لحماية المستوطنات والجنود”.
ومع إنشاء محور “موراج” الذي يفصل رفح عن بقية القطاع، ويمتد بمحاذاة الحدود المصرية، بات واضحًا أن “إسرائيل” تعيد ترسيم حدود غزة على نحو يُحوِّل رفح إلى منطقة عازلة جنوبية، موازية لمحور “فيلادلفي”.
في جنوب لبنان، استغل الاحتلال فترة الهدوء الميداني بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 لفرض سيطرته على أكثر من خمس نقاط استراتيجية داخل الأراضي اللبنانية، جميعها مواقع مرتفعة تُشرِف على العمق الجنوبي، وتُستخدَم بوصفها بدائل عن التحليق الدائم للطيران والمسيَّرات. هذا التمركز لا يُعد مؤقتًا، بل هو جزء من الطبقة الثانية في العقيدة الأمنية الجديدة، للتحكم في الميدان من الأراضي اللبنانية ذاتها، دون الحاجة لتوغل بري جزئي أو اجتياح شامل.
وأما في الجنوب السوري، فبدت الاستراتيجية أكثر وضوحًا وصراحة، إذ أنشأت “إسرائيل” تسع قواعد جديدة في أشهر قليلة، سبع منها داخل “المنطقة العازلة”، واثنتان خارجها، ما يرفع مساحة الاحتلال الفعلي إلى أكثر من 1,400 كيلومتر مربع، بالتزامن مع إعلان وزير الحرب “الإسرائيلي” بشأن تقسيم الجنوب السوري إلى ثلاث طبقات أمنية: منطقة خالية من القوات؛ ومنطقة بعمق 15 كيلومترًا بلا تسليح نوعي؛ ومنطقة نفوذ يُسمَح فيها فقط بوجود الشرطة، أي تحويل جنوب سوريا إلى منطقة منزوع السيادة.
بذلك، يؤكد ما يجري على الأرض أن “إسرائيل” لا تبنِي خطوط دفاع فقط، بل تفرض خرائط ميدانية جديدة، تُعزِّز تمددَها الاستراتيجي، وتُحوِّل العقيدةَ الأمنيةَ إلى وسيلة هادئة لإعادة احتلال مساحات واسعة، دون الحاجة لإعلان ذلك رسميًّا.
استنزاف بلا كلفة
في مقابل الاندفاعة “الإسرائيلية” المبنية على المبادرة الميدانية وفرض الوقائع، اتسم سلوك الأطراف الإقليمية المتأثرة، ولا سيما قوى المقاومة والنظام السوري الجديد، بتوجُّه يقوم على امتصاص الصدمة والتمسك بالتهدئة، أكثر من التصدِّي المباشر.
هذا التعاطي، وإن اتكأ على حسابات داخلية وسياسية مفهومة، فقد مكَّن الاحتلالَ من تنفيذ تحركات ميدانية استراتيجية دون أن يدفع كلفة حقيقية، بل وسمح له بتحويل الوقائع الميدانية المؤقَّتة إلى دائمة.
اعتمدت المقاومة اللبنانية، وتحديدًا “حزب الله”، مقارَبةً تقوم على “الحفاظ على ما يمكن حفظه”، والتمسك بالقرار 1701 كأساس لوقف إطلاق النار المستجد. وتجنبت القيادة السياسية العودة إلى الانزلاق إلى ما يقرِّبها من الحرب الشاملة، مراهِنةً على أن عامل الوقت والتهدئة النسبية كفيلان بلجم الاندفاعة “الإسرائيلية” من جهة وإعادة تراكم القدرات من جهة ثانية والرهان على متغيرات إقليمية من جهة ثالثة..
لكن الواقع الميداني يشي بمسارات مختلفة، إذ استغل الاحتلال هذا السلوك لإحداث اختراقات متراكمة، شملت تدمير البنية التحتية، وتنفيذ اغتيالات دقيقة بحق كوادر ميدانية، ومصادرة آلاف قطع السلاح، ضمن عمليات عسكرية لا تكلف ثمنًا ميدانيًّا فعليًّا. واحتفظ الاحتلال بأكثر من خمسة مواقع استراتيجية داخل الأراضي اللبنانية، جميعها مرتفعات تشرف على العمق اللبناني.
وأما الحكم السوري الجديد فقد فضَّل منذ اللحظة الأولى إرسال رسائل تهدئة متواصلة، عبر الحلفاء أو وسطاء غربيين، من دون التورط بأية مواجهة ميدانية. مع ذلك، لم تُوقف “إسرائيل” عملياتِها، بل كثَّفت ضرباتِها ضد مواقع الجيش السوري، واستهدفت مخازنَ التسليح النوعي، وعمَّقت وجودها في الجنوب السوري، وأنشأت فقط في أربعة أشهر تسع قواعد عسكرية جديدة، أضيفت إلى الجغرافيا المحتلة أصلًا في الجولان. كما يعني إعلان وزير الحرب بشأن تقسيم الجنوب أن محافظات بأكملها مثل درعا والقنيطرة والسويداء باتت تحت الهيمنة “الإسرائيلية”، دون إطلاق “تل أبيب” طلقةً واحدةً على مستوى مواجهة عسكرية مباشرة مع الجيش السوري.
القاعدة التي تنطلق منها “إسرائيل” في هذه الاندفاعة واضحة: طالما أن عمليات السيطرة لا تُقابل برفع للكلفة، بشريًّا أو سياسيًّا أو ميدانيًّا، فالتمدد استثمار رابح بلا أثمان. وقد أنتجت البيئة السياسية الإقليمية والدولية، وسلوك الأطراف المتضررة المتردد، وضعًا مثاليًّا يسمح لها بمراكمة الإنجاز الاحتلالي بهدوء وفعالية
وأما في غزة، فقد اختارت المقاومة الفلسطينية ألَّا تُسلِّم بالوقائع الجديدة، ورفضت مبدئيًّا القبول بالمناطق العازلة أو أي تواجد عسكري دائم داخل القطاع. وأصرَّت في مفاوضات التهدئة، ولا سيما في يناير/كانون الثاني 2025، على أن الانسحاب الكامل من أراضي القطاع شرط لا تنازل عنه.
في المقابل، تمسَّك الاحتلال بمخططه، وواصَل توسيع المنطقة العازلة، وشكَّل هذا عنوانَ تحرُّكِه البريِّ الرئيسيِّ بعد استئناف حرب الإبادة في منتصف مارس/آذار الماضي، وأعلن أنه استولى على مناطق جديدة وبدأ في إخلاء سكانها، وتعميق المنطقة العازلة لتصل حدود السيطرة “الإسرائيلية” إلى أكثر من 40% من مساحة القطاع.
إعادة رسم الخرائط
تكشف الوقائع المتراكمة على الجبهات الثلاث أن الاحتلال لا ينفِّذ مجرد عمليات دفاعية مؤقَّتة، بل يتقدَّم بخطى مدروسة نحو إعادة احتلال صامت، يستند إلى استراتيجية أمنية هجومية، تُعيد تعريف الحدود والمفاهيم والسيطرة، ما أدَّى إلى فرض وقائع جيوسياسية جديدة تُنذر بتثبيت وقائع احتلالية ستشكِّل مرتكزَ العمل العسكري والأمني “الإسرائيلي” لعقود.
القاعدة التي تنطلق منها “إسرائيل” في هذه الاندفاعة واضحة: طالما أن عمليات السيطرة لا تُقابل برفع للكلفة، بشريًّا أو سياسيًّا أو ميدانيًّا، فالتمدد استثمار رابح بلا أثمان. وقد أنتجت البيئة السياسية الإقليمية والدولية، وسلوك الأطراف المتضررة المتردد، وضعًا مثاليًّا يسمح لها بمراكمة الإنجاز الاحتلالي بهدوء وفعالية.
في المقابل، أظهرت قوى المقاومة والأنظمة المتضررة عجزًا عن بلورة استراتيجية مواجهة فاعلة. ففي حين بنت “إسرائيل” استراتيجيتها على المبادرة، اكتفت هذه القوى بالرد، أو الترقب، أو التهدئة المؤقتة، أملاً في وقف الخسائر، دون إدراك أن التراجع أمام الاندفاعة يعني ترسيخها، لا احتواءها.
ويمكن التلخيص بأن ما يجري اليوم ليس احتلالًا ميدانيًّا صامتًا فقط، بل هو اختبار استراتيجي لقدرة شعوب المنطقة وقواها الحيَّة على استيعابه والتفاعل معه بمنطق المقاومة المركَّبة، لا التكيُّف البارد مع الوقائع. ومع استمرار غياب الكلفة الحقيقية لاندفاعة الاحتلال، يجد المشروع الصهيوني نفسَه أمام فرصة نادرة لتوسيع الخريطة، دون رصاص، ولا مقاومة جدية، ولا ضغوط دولية جدية.
ولا يتوقف التحدي المطروح اليوم عند الرد على العدوان، بل يتعدَّاه إلى ضرورة تفكيك هذه العقيدة “الإسرائيلية”، وكشف أهدافها الحقيقية، وبناء منظومات ردع مضادة، تَفرض على الاحتلال ثمنًا لتمادِيه، وتضع حدًّا لتحويل الجغرافيا إلى مادة تفاوُض على الطاولة “الإسرائيلية” وحدها.