

بدءاً من انتخابات عام 1892، عندما نجح السياسي وعضو مجلس النواب عن ولاية آيوا، جيمس ب. ويفر، كمرشح عن حزب الناس The People’s Party في الحصول على نسبة 8.5% من الأصوات الشعبية، و22 صوتاً من أصل 444 بالمجمع الانتخابي، وذلك في مواجهة المرشح الديموقراطي جروفر كليفلاند (الرئيس الأمريكي الثاني والعشرون والرابع والعشرون)، والمرشح الجمهوري بنجامين هاريسون (الرئيس الثالث والعشرون).
وبينما كانت آخر مناسبة انتخابية نجح بها أحد مرشحي الأحزاب الثالثة في جمع أكثر من 5% من التصويت الشعبي، في انتخابات 1992، عندما فاز رجل الأعمال والسياسي روس بيروت بنسبة 8.4% من الأصوات لمصلحة حزب الإصلاح The Reform Party، انتزعها من بين براثن الرئيس الأمريكي الساعي لولاية رئاسية ثانية بيل كلينتون، والمرشح الجمهوري المنافس له بوب دول، زعيم الأقلية الجمهوري بمجلس الشيوخ في وقتها.
لنتذكر معاً تسمية “تأثير المفسد Spoiler Effect” الذي تم القاؤه على الناشط السياسي المخضرم رالف نادر، الأمريكي من أصول لبنانية الذي ترشح لرئاسة الولايات المتحدة في أربع معارك انتخابية رئاسية. أبرزها كانت انتخابات عام 2000، التي تنافس فيها ضد المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش، منتزعاً أصوات من منافسه المرشح الديموقراطي ونائب الرئيس في وقتها آل جور. وبخاصة أن توجهات نادر تحسب على “اليسار”، وأن عدد الأصوات الشعبية التي حصل عليها تخطت الفارق التصويتي ما بين بوش وآل جور، في حدث لم يتكرر سوى ثلاث مرات في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
لكن السؤال هنا، من هو “المفسد” الحقيقي، هل هو مرشح مستقل، مرشح حزب ثالث، أو حتى مرشح تم التصويت له خطياً في ورقة الانتخاب Write-in Candidate؟ هل هؤلاء هم الذين يفسدون اللعبة السياسية لمن يتحكمون في مقاليد الثنائية الحزبية بأمريكا؟ أم أن الثنائية ذاتها هي المفسدة.
الثنائية تكتسح الساحة
الساحة السياسية الأمريكية لم تكن دوماً حكراً على الحزبين الجمهوري والديموقراطي منذ نشأة الجمهورية الفيدرالية، مع تواجد أحزاب أخرى تاريخياً، مثل حزب الاتحاد الوطني National Union Party، الحزب الفيدرالي The Federalist Party، وحزب اليمين The Whig Party، وكيانات سياسية وتحالفات أخرى قامت بتقديم رؤساء إلى البيت الأبيض، مثل زاكاري تايلور، جيمس مونرو، جون كوينسي آدامز، أبراهام لينكولن.
لكن هذه الأحزاب المذكورة أعلاه لا يمكن اعتبارها أحزاباً دخيلة أو صغيرة، حيث أنها كانت كيانات تيار رئيسي بالطيف السياسي في وقتها. الأمر فقط هو أن الصيغة السياسية لم تكن قد تحولت بعد إلى نظام ثنائي الحزب أو Duopoly.
سياق الثنائية الحزبية، لطالما خنق التنافسية السياسية وتسبب في إحباط الأفكار السياسية الجديدة لمدة تزيد عن مائة عام. منذ نشأة هذه الثنائية، أطبق طرفاها على خناق السياسة، من خلال سن التشريعات التي قاموا بتبادل تمريرها عبر غرفتي الكونجرس، ثم عبر المحاكم التي قامت بتأييد هذه التشريعات بتحويلها إلى قانون ودستور البلاد.
لقد أدى هذا الاحتكار المزدوج للمجال السياسي الأمريكي إلى جعل الوصول السياسي والقدرة التنافسية لأي حزب ثالث مهمة تكاد تكون مستحيلة، حتى مجرد الوصول إلى الإدماج في أوراق الاقتراع.
فضلاً عن شح تمويل الحملات الانتخابية الذي تفرضه الشركات الكبرى وكبار المانحين، ممن لا يترددون على الجانب الآخر في صب كل تبرعاتهم في خزائن وجيوب أحد الحزبين المهيمنين. بينما تقوم وسائل الإعلام التقليدية بتحجيم واستبعاد مرشحي الأحزاب الثالثة والمستقلين، الذين يُحرمون أيضاً من فرصة الظهور في المناظرات السياسية.
الطريق المسدود
لهذه الأسباب يختار المرشحون ممن لديهم مشكلات واختلافات سياسية وإيديولوجية مع أحزابهم الرسمية، أن يترشحوا عبر هذين الحزبين، مثل المستقل بيرني ساندرز، أو الليبرتاري رون بول، أو حتى الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب ذاته. لأن أياً منهم لا يرى أملاً في الترشح كمستقل، أو كمرشح في حملة تصويت خطية بورقة الاقتراع، أو كمرشح حزب ثالث.
يؤدي هذا الجمود السياسي إلى طريق مسدود في وجه النقاش السياسي الموسع، مما يحرم الناخبين من حقهم في سماع وجهات نظر بديلة ومتنوعة، وتقليص فرص بروز أية برامج سياسية خارج قبضة الثنائي الحزبي الأمريكي.
ويواصل قطبا الثنائية السياسية تواطؤهما العلني لحجب فرص أي دخلاء، بينما يستمران في تنازعهما حول سياسات الهوية السخيفة، ويتبادلان إلقاء اللوم كل على الآخر كلما حاز أحدهما على أغلبية المقاعد في إحدى غرفتي الكونجرس، أو على كرسي الرئاسة داخل البيت الأبيض. لكن كلاهما في واقع الأمر، يقسم بالولاء لذات الجهات المانحة من الشركات، جماعات المصالح الخاصة، وجماعات الضغط ولوبيات K Street، دون أي اختلاف يذكر يُميّز أحدهما عن الآخر.
وبغض النظر عن رأي واحدنا في بيرني ساندرز كمثال، فهو يمثل نموذجاً صارخاً على ما يمكن أن يفعله بك حزبك عندما لا يريد المتحكمون بمقاليده أن يقوم صوتك “المستقل” بتغيير الأمور من داخله، أو الفوز في الانتخابات التمهيدية لحزبك، وذلك حينما ترشح ضد هيلاري كلينتون سيئة السمعة السياسية، وذلك في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الديموقراطي عام 2016. لكن بيرني ساندرز لم تطلق عليه تسمية “المفسد Spoiler“، بل كان من نصيبه أن أطلق عليه لقب “الرفيق Comrade“.
تحذير جورج واشنطن
في أيلول/سبتمبر 1796، تعاون ثلاثة من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية في تحضير خطاب الوداع للرئيس الأمريكي الأول، جورج واشنطن، الذي قرّر حينها عدم الترشح لمدة رئاسية ثالثة.
هؤلاء الثلاثة كانوا جيمس ماديسون، ألكسندر هاملتون وجورج واشنطن ذاته. مثل هذا الخطاب سيُعدُ غير قابل للتصديق، ولا الهضم، وسيُعامل على أنه “غير صحيح سياسياً”، إذا ما قامت أية شخصية سياسية بقراءته على مسامع الجماهير الأمريكية في عالمنا المعاصر. لكن الآتي ذكره هو ما أراد الثلاثي التحذير منه منذ بدايات الجمهورية الفيدرالية الأمريكية.
عبّر جورج واشنطن عن قلقه من أن استقرار الولايات المتحدة يتعرض للتهديد بسبب الانقسامات “الفئوية السياسية”، داعياً الأمريكيين إلى أن “يقوموا بإخضاع الغيرة الطائفية للمصالح الوطنية المشتركة”.
بمساعدة هاملتون وماديسون، كتب واشنطن قائلاً: “إن أساس أنظمتنا السياسية هو حق الشعب في وضع وتعديل دساتير حكومته”. وكما أنه كان يتحدث عن جماعات الضغط دون أن يعلم ذلك في حينه: “إن جميع العراقيل التي تعترض طريق تنفيذ القوانين، وجميع التوليفات والارتباطات، مهما كانت درجة معقولية طبيعتها، التي تهدف في الواقع إلى توجيه، التحكم في، أو معارضة أو ترويع عملية المداولات والعمل المنتظم للسلطات الدستورية، هي مدمرة هذا المبدأ الأساسي، وهي ذات نزعة كارثية (قاتلة)”.
ومتابعاً هذه الكلمات بفقرة قوية تحمل تحذيراً شديداً ضد الفئوية السياسية وانتصار المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية، حيث قال:
“إنها تعمل على تنظيم الفصائل؛ وإعطائها قوة اصطناعية وغير عادية؛ ووضع إرادة الحزب مكان الإرادة المفوضة للأمة، التي غالبًا ما تكون أقلية صغيرة ولكنها ماكرة ومغامرة من المجتمع؛ ووفقًا للانتصارات المتبادلة للأحزاب المختلفة، فإنها تجعل الإدارة العامة مرآة للمشاريع الفصائلية غير المنسقة وغير المتجانسة، بدلاً من كونها أداة للخطط المتسقة والسليمة التي تهضمها المجالس المشتركة وتعدلها المصالح المتبادلة. ومع ذلك، فإن التركيبات أو الجمعيات المنطبق عليها الوصف أعلاه قد تستجيب بين الحين والآخر لأغراض شعبية، ومن المرجح، مع مرور الوقت وسير الأمور، أن تتحول إلى محركات قوية يتم من خلالها تمكين الرجال الماكرين والطموحين وغير المبدئيين من تقويض سلطة الشعب والاستيلاء على مقاليد الحكم لأنفسهم، وتدمير نفس المحركات التي رفعتهم إلى مقاليد السياسة الظالمة”.
ألا يبدو الأمر وكأن كل ما قام جورج واشنطن بتحذير الأمريكيين منه في زمنه، تحول بالضبط إلى ما هو سائد واعتيادي اليوم؟ ليس هذا فحسب، بل يمكننا أن نقول بثقة إن هذه الممارسات قد تضاعفت.
فصيلان سياسيان متنافسان “ظاهرياً” يدعيان العداء، بينما هما في واقع الأمر، يشكلان ثنائياً سياسياً يمكن وصفه -على حد تعبير واشنطن- بأنه “مدمر” و “ذو نزعة كارثية”.
(*) لقراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية على موقع New Eastern Outlook