

لكن السؤال الجوهري يبقى يتردد دائمًا وهو ما الغرض من هذا الخطاب المشحون بالفلسفة؟ ولماذا يُستخدم في لحظةٍ يُفترض أنها لتكريم العامل، لا لإخفاء استغلاله؟
الفلسفة كقناع أيديولوجي
يرى لويس ألتوسير أن الأيديولوجيا تعمل من خلال أجهزة الدولة، ومنها اللغة والخطاب. حين يستخدم الرأسماليون لغة الفلسفة في مناسبات العمال، فهم لا يُكرّمون العامل بقدر ما يُكرّسون النظام. الكلمات تصبح غطاءً ناعماً لعلاقات قاسية. فالخطب لا تُفصح عن شروط العمل المجحفة، بل تُخفيها تحت بلاغة “المسؤولية الاجتماعية” و”الانتماء المؤسسي”.
وغالبًا ما يُستحضر أفلاطون في الحديث عن “العدالة بين مكونات المجتمع”، لكن من دون الاعتراف بأن توزيع الثروة غير عادل. ويتابع في السياق عينه أنّ “كرامة الإنسان غاية لا وسيلة”، بينما يتم التعامل مع العامل كوسيلة يومية لزيادة الأرباح. هكذا تُستخدم الفلسفة كما تُستخدم الزينة لتجميل وجهٍ مشوهٍ بالاستغلال.
استلاب ماركسي بخطاب بورجوازي
من منظور ماركس، العامل في النظام الرأسمالي مُستلب، مغترب عن جوهره الإنساني. لكن الرأسماليين في احتفالاتهم يستعيرون لغة ماركس ليُضفوا على النظام طابعًا إنسانيًا. يقولون: “نؤمن بقيمة العمل كوسيلة لتحقّق الإنسان”، وهي مقولة يُمكن أن نجد شبيهًا لها في كتابات ماركس، لكنهم يقصدون بها شيئًا مختلفًا تمامًا: تعزيز الانضباط والإنتاجية.
ما يحتاجه العمال ليس فلسفة تُستخدم ضدهم، بل فلسفة تُحرّرهم. لغة تُسائل لا تُزين. بدلاً من الاستماع لخطب مدراء الشركات، يجب سماع أصوات العمال أنفسهم. الخطاب الحقيقي لا يأتي من الأعلى، بل من الأسفل
هذه الخُطب لا تُعيد للعمال كرامتهم، بل تُخدّر وعيهم. وهنا يمكن القول مع “غي ديبور” إن الخطاب نفسه يُصبح “مشهدًا”، صورةً تُستهلك، لا حقيقةً تُواجه. العامل يسمع كلمات عظيمة، لكن لا يرى تحسينًا ملموسًا في شروط عمله. هكذا يتحول الاحتفال إلى شكل من أشكال التشيؤ الرمزي.
الهيمنة الثقافية
أدرك أنطونيو غرامشي أن السيطرة الطبقية لا تكون فقط بالقوة، بل من خلال “الهيمنة الثقافية”، أي تمرير قيم الطبقة الحاكمة على أنها قيم عامة. في ضوء هذا، لا عجب أن تُقام في الشركات ندوات فلسفية عن “المعنى الوجودي للعمل”، أو تُنشر مقالات على مواقع المؤسسات الكبرى تستشهد بسقراط وسبينوزا لتأكيد “الدور الأخلاقي للعامل”.
والهدف من هذا الخطاب ليس التثقيف، بل الترويض. العامل يُمنح لغةً أنيقة ليُعبّر عن واقعه، لكنها لغةٌ تُكبّله ولا تُحرّره. يُطلب منه أن يفكر في ذاته كفاعل وجودي لا ككائن مُضطهَد. يُقال له إن العمل يمنحه كرامته، لا أن تُسلب منه يوميًا.
النفاق الأخلاقي و”أخلاق العبيد”
من زاوية نيتشوية، هذا الخطاب يُظهر تناقضًا أخلاقيًا حادًا. فالرأسمالي يُقدّم نفسه كإنساني، كراعٍٍ للعدالة، بينما نظامه قائم على استغلال الجهد البشري إلى أقصى حد. نيتشه وصف هذا النوع من القيم بـ”أخلاق العبيد”، حيث تُقلب الحقائق: يُصبح القمع عناية، والاستغلال شراكة. وحين يُقال في خطبة عمالية: “نحتفل بكم لأنكم الأبطال الحقيقيون”، فهذا لا يتجاوز كونه تخديرًا للوعي، كما يُخدّر الدين الشعور بالمعاناة عند نيتشه أو ماركس. إنها قيمٌ مغلوطةٌ تُقَدَّم للعامل حتى لا يثور، بل يشعر بالامتنان.
حين تُستخدم الفلسفة لتجميل الظلم، فإنها تفقد جوهرها. لذلك، فإن مهمة العمال ليست فقط في رفض شروط العمل، بل أيضًا في رفض اللغة التي تُجمّله
إفراغ الثورة من محتواها
عندما تُستخدم الفلسفة في سياق السلطة، فإنها تُختزل إلى بلاغة ناعمة تُبعد العقل عن الفعل. الخطبة التي تبدأ بأفلاطون وتنتهي بنيتشه قد تُدهش العامل، لكنها لا تمنحه أدوات لفهم موقعه الطبقي أو لتحرير نفسه.
والاحتفالات العمالية التي تُلقى فيها خطب فلسفية من قبل الرأسماليين تُشبه طقوس الاعتراف في الكنيسة؛ لحظةٌ قصيرةٌ من المجاملة تُكفّر عن عام كامل من الاستغلال. وكما قال فالتر بنيامين، فإن “كل توثيق للحضارة هو في الوقت ذاته توثيق للهمجية”. الخطبة المتحضرة تُغطي على واقعٍ همجي.
أخيرًا، ما يحتاجه العمال ليس فلسفة تُستخدم ضدهم، بل فلسفة تُحرّرهم. لغة تُسائل لا تُزين. بدلاً من الاستماع لخطب مدراء الشركات، يجب سماع أصوات العمال أنفسهم. الخطاب الحقيقي لا يأتي من الأعلى، بل من الأسفل.
الفلسفة ليست ترفًا نظريًا، بل أداة لفهم العالم بهدف تغييره، كما قال ماركس. وحين تُستخدم الفلسفة لتجميل الظلم، فإنها تفقد جوهرها. لذلك، فإن مهمة العمال ليست فقط في رفض شروط العمل، بل أيضًا في رفض اللغة التي تُجمّله.
فلتستعاد الفلسفة إذًا كسلاح نقدي، لا كأداة تجميل للرأسمالية.